زيد عيسى العتوم
من الطبيعي أن نرى العاطفة كمجموعة متحركة من المشاعر والأحاسيس التي يرفدها الوعي والإدراك, مما يعكس ردود أفعالنا الفردية وربما الجمعية تجاه المواقف والقناعات والرؤى, ويرافق ذلك جملة عريضة من الانفعالات النفسية المرئية والواضحة يفهمها حاملها ومن يرقبه من محيطه الناظر اليه, لكن الأغرب منها قد نراه بذلك التدفق المفاجيء والصارخ وربما الغير مبرر لتلك المشاعر الجامحة في أحلامها وربما أوهامها, مع التأكيد على ضرورة احترام تعدد الآراء والأهواء مهما كانت قِبلتها ووجهتها الاجتماعية أو السياسية أو الدينية أو غير ذلك, فتفسير وتمحيص الآخر أو الآخرين يجب أن لا يعني الانتقاص منه أو منهم تحت أيّ من الغايات والمسميات.
بعد بضعة أيام قليلة ستجري الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية والبرلمانية لتحديد من يقود تركيا في السنوات المقبلة, وتتخذ تلك المرحلة خصوصيتها كونها لا بد وأن تنبري للتعامل مع حزمة كبيرة من الملفات الخطيرة والشائكة, فالحرب الأوكرانية مشتعلة, وأبواب الاتحاد الأوروبي مقفلة بإحكام, وملايين اللاجئين السوريين قد حطوا رحالهم على التراب التركي, والاقتصاد التركي يتأرجح من ذاته أو حتى بفعل فاعل, والمعضلة الكردية وعلاقات الجوار وثروات المتوسط لا بدّ وأنها ستبقى ثقلاً على صانع القرار التركي الذي ستنتجه الآلاف من صناديق الاقتراع المختومة بأحمرها وأبيضها.
يتمتع الرئيس أردوغان بشعبية كبيرة في عالمنا العربي, وربما قد يتجاوز هُيام البعض به حب مناصريه وأعضاء حزبه الأتراك, فيراه الكثيرون صاحب الكاريزما السياسية التي تجعله زعيم الأمة وحفيد امبرطوريتها التي تمّ التآمر عليها, والغريب أن تلك الحشود “العاشقة” بأغلبيتها الساحقة لا تفهم اللغة التركية ولا تستمع لوسائل الإعلام التركية لإماطة اللثام السياسي والأيدولوجي عنه وعن حزبه من وراءه, بل تكتفي بالترنّم على بعض الجمل الخطابية والحماسية, تجعلهم يسبحون في خيالٍ فيه عمر بن عبدالعزيز, أو يغرقون في أمنياتٍ فيها صلاح الدين وقطز, أو ينتشون بالربط الذهني مع أحلام استعادة أمجاد الماضي ونفض الغبار عن قمقمها المظلوم.
لو كنت مواطناً تركياً ربما لأحببت ذلك الفتى ابن العائلة الفقيرة الذي انتقل الى اسطنبول بحثاً عن العيش الكريم, والذي صعد صاروخياً باقتصاد بلده في أولى سنين حكمه حتى جعل بلده عضواً في نادي العشرين الكبار, والذي ضبط إيقاع سطوة الجنرالات كونه لم ولن يتجاوز الخطوط الحمراء لعلمانية أتاتورك المقدسة, والذي يمارس براغماتية سياسية بالإمساك بمنتصف العصا بين انتماءه لحلف الناتو وبين مصالحه المتشعبة مع روسيا الجارة, والذي يحاول جاهداً مد الأذرع التركية في محيطه الإقليمي لتعظيم المكاسب ودرء المفاسد الجيوسياسية.
لكنني لو كنت عربياً أُبعد المشاعر الجيّاشة عن صياغة الأفكار وترتيب المصالح على أرض الواقع, لتذكرت أن العرب والأتراك ينحدرون من إثنيات مختلفة, ويستخدمون لغتين مختلفتين, وأن الدولة العثمانية التي حكمت معظم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا قد سلبت العرب حقهم في تقرير مصيرهم, ولرأيت القوات التركية تتموضع براحتها في شمال العراق وسوريا بحجة ضرب المتمردين الكرد, ولو كنت مسلماً تبهرني قباب اسطنبول وتدغدغني آيا صوفيا, لتذكرت أن الجمهورية التركية التي أقيمت على رماد إمبرطوريتها العثمانية قد اختارت العلمانية طريقاً لا تحيد عنه, تحت مظلة الدستور الراسخ وبحماية الجيش القوي, ولو كنت فلسطينياً لأسعدني مناكفة الرئيس أردوغان لبنيامين نتنياهو وتركه القاعة لشمعون بيريز, وتنديده القاسي بمهاجمة القوات الاسرائيلية لقوارب أسطول الحرية التي كانت تحمل المتضامنين مع كسر الحسار عن غزة ومعظمهم من الأتراك, لكنني سأتذكر عقوداً من التعاون والوئام بين الجيش التركي ونظيره الإسرائيلي, وأن العلاقات التجارية والسياحية بين الطرفين تسير على ما يرام دون ضجيج, ناهيك عن حميمية العلاقة في مجال الطاقة وتبادل المعلومات الاستخباراتية بينهما.
أطيب الأمنيات لتركيا وديموقراطية صناديق اقتراعها, التي ستجدد الثقة لرئيسها أو تستبدله برئيس جديد, أما العرب الحالمون بسريالية ذلك المشهد الهوليوودي والذي يمتطي فيه البطل المسلم حصانه ويمسك بيده سيفه قرب أسوار القدس, فليتريثوا قليلاً!