طلحة جبريل
ثمة مدن ذكية. أخرى شاخت. ثالثة عصية على الوصف. رابعة تعرض مفاتنها على قارعة الطريق. الرباط مدينة أليفة، تحتفظ بأسرارها.
ذات يوم، ذات شهر، ذات سنة، جئت أيها الفتى الى هذه المدينة، التي بدت لك وقتها أنظف وأجمل مكان في الكون. مدينة بيضاء، ناسها يتحدثون بصوت خفيض. تستيقظ مبكراً وتنام باكراً.
كانت بدايتك من “شارع محمد الخامس”. ستدرك في وقت لاحق أن أهل الرباط يختصرونه ليصبح إسمه “الشارع”. جئت إليها ليلاً، ثم استيقظت باكراً لتكتشف الأمكنة. أيامئذ كنت تعيش بداية الشباب، المرحلة السحرية من العمر، كنت مقبلاً على الحياة بجميع تناقضاتها، بل لعل تلك التناقضات هي التي كانت تنعش روحك، كما ينعش الماء النبات.
ذلك الصباح الذي توارى في الذاكرة، لاحظت كيف أن الناس يندلقون في “شارع” يمور بالحركة لكن دون ضجيج. يهرولون، صامتون، جميلون. وجدت في الشارع رائحة متميزة، هي خليط من روائح القهوة والخبز والهلاليات الساخنة التي خرجت لتوها من الفرن.
في بعض الأحيان كنت تستنشق عطراً من سيدات وفتيات يركضن نحو مكاتبهن. وجدت في هذا “الشارع” مكتبات تعرض ثمرات المطابع ساخنة كما هو الخبز. أكشاك مكدسة بالمجلات والصحف. الناس يقرؤون ثم يقرؤون. لاحظت كيف أن هذه “الرباط” حافظت على بعض مبانيها الأثرية.مساحات خضراء تتوسط “الشارع” ، وشجر نخيل أجمل كثيراً من نخيل تركته هناك في قريتك.
في الشوارع الخلفية كاد يطير عقلك وأنت تشاهد شجيرات “لارانج” مثمرة تفوح منها رائحة زهر البرتقال . تلك الرائحة ظلت في خياشيمك حتى يوم الناس هذا.
سنوات وأنت تتنقل بين “الحي الجامعي مولاي إسماعيل” و ” كلية الآداب والعلوم الإنسانية”. حفظت الشوارع والأزقة والبنايات، وبدت لك هذه الدائرة الصغيرة، هي العالم الفسيح. هي تماهي الإنسان مع المكان، كما حاول أن يحلل ذلك غاستون باشلار. بل لعله تسرب المكان بكل دلالالته إلى دواخل الإنسان.
المثير أنك بقيت فترة طويلة لا ترغب في اكتشاف أحياء هذه المدينة الأليفة الجذابة والمضيئة. اكتفيت بدائرتك المحدودة.
الأصدقاء في “مولاي إسماعيل” الزميلات والزملاء في باحة الكلية، حركة ” الشارع” الدائبة في الصباحات الجميلة، والمساءات الرائقة. رائحة أزهار البرتقال.
بعد سنوات رحت تكتشف شارع آخر، إنه شارع “علال بن عبدالله”، حيث يجلس الناس على الأرصفة بعد أن فاضت المقاهي من الداخل إلى الخارج. يرتشفون “مشروباتهم” يتأملون المارة، ويقصون لبعضهم بعضاً، حكايات وقصص “الإدارات”.
في سنوات لاحقة ستدرك أن هناك بين الشارعين، بعض أمكنة، يبدد فيها أصحابها الوقت. يمزقون الليالي حتى الفجر، ولسان حالهم يقول إن الليل ما يزال طفلاً يحبو. لكن الرباط بعد سنوات الدراسة، ستبوح لك ببعض اسرارها.
ستكتشف عالم السويقة المدهش. ستعرف أن “حسان” هو رمز التسامح بين ثلاث ديانات. ستدرك أن “أكدال” هو طبقة وسطى، تعيش وسط الزهور والخضرة والوجوه الحسنة، قبل أن تتحول الى “غابة إسمنت”. ستروقك الصباحات الندية في “بلاس بتري” والوجوه النضرة، والورد الفواح. ستجذبك أجواء”ديور الجامع” وتناقضاته. سيبدو لك”العكاري”بستان خضروات وفواكه طازجة. ستحاول اكتشاف”اليوسفية” و”التقدم” لكنهما يتمنعان . ستعرف أن “يعقوب المنصور” هو تاريخ آخر.ثم ستقرر أن تكون “الرباط” هي مربط خيلك، وأنت “لا خيل عندك تهديها ولا مال”.
ثم سيجيء زمان، يغلبك فيه الزمن وتصاريفه، وتقرر أن تحمل “شنطة” تعبر المحيط الأطلسي في رحلة لم تكن مقررة وحتماً لم تكن تدرك أنها مقدرة،لكن “ذاكرة الرباط” بقيت معك. بدت “الرباط” لك من وراء البحار عالماً جميلاً تركته خلفك دون مبرر، إذ هي مدينة تجعلك تتذكر باستمرار، بل هي مدينة تجعلك تنسى ما عداها.
راحت الأيام تمر يوماً بعد يوم، وسنة تلو أخرى. ثم يقال لك: إلى الرباط من جديد. نزلتها من جديد، لكنها لم تكن تلك “الرباط” التي تعرف، تمدت وتوسعت، وثمة وجوه غابت.لم يعد “الشارع” مكاناً لتزجية الوقت والتأمل، بل صار “ساحة” للاحتجاج. مظاهرات ومسيرات ووقفات. حدث ذلك لأن المغرب تغير، ولم يكن ممكناً أن تنأى “الرباط” بنفسها ، لكن بعض المظاهر أحزنتني . حزنت حقاً. أحزنني أن بعض رونقها قد ذبل ولم تبق منه إلا أصداء بعيدة. شوارعها بعيدة عن الأناقة، بعض أحيائها تناثرت ذات الجنوب وذات الغرب بلا تنظيم ، لك تعد المدينة تعيش ذلك الفوران الثقافي ، لا تقرأ كما كانت. بات واضحاً أنها لم تعد في هذا الجانب تهتم بنفسها.