خواطر روحيّة وِجْدانِيّة: الصمت والخلوة كمسار نقدي نفسي وروحي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* د. شَنْفَار عَبْدُ اللَّه

 

 

       هل يمكن للصمت عن الكلام أن يكون تجربة علاجية قائمة بذاتها؟ وهل يمكن اعتبار الامتناع عن الحوار الاجتماعي أداة للنمو النفسي والروحي في عصر يهيمن عليه الإغراق في الضوضاء الرقميّة والاجتماعيّة؟
هذه أسئلة مركزية تحفّزنا على إعادة التفكير في العلاقة الجدليّة بين الكلام والنفس والبيئة المحيطة بنا.
       تجربة الصوم عن الكلام ليست مجرد ممارسة عابرة، بل هي محاولة واعية لإعادة اكتشاف الذات. ففي لحظة الصمت، يبدأ المرء بسماع صوته الداخلي بوضوح، ويكتشف امتداداً داخلياً أوسع مما يتصور.
لكن هل يكفي الصمت الداخلي وحده كوسيلة لإعادة التوازن النفسي؟ أم أن قيمة هذه الممارسة تكمن في قدرتها على إعادة ضبط شبكة العلاقات بين الفرد والمجتمع؟
       الصمت هنا ليس الامتناع عن النطق فقط، بل هو استراحة نفسية وروحيّة من الفوضى اليوميّة. تجربة الانعزال المؤقت عن الهاتف والرد على المكالمات، والتفاعل الاجتماعي المكثف، تثير سؤالاً إشكالياً، وهو:
إلى أي حد يمكن للانفصال عن الآخرين أن يكون علاجاً مشروعاً، ومتى يصبح انعزالاً يعكس نزوعاً نحو الانفصال الأخلاقي أو النفسي؟
       الحوار الداخلي أو المونولوج النفسي هو أداة معرفيّة بحد ذاته. إذ يتيح للمرء مراجعة ذاته والتفكر في أفعاله ومعتقداته.
لكن كيف يمكننا أن نفرّق بين الصمت الواعي الذي يغذي الروح، وبين صمت القلق أو “شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ” والذي يقيّد التفكير ويكبت الانفعالات؟
       قصة مريم عليها السلام تقدم لنا نموذجاً استثنائياً للصمت الإنساني المبرر والمقدس. حين وُضعت عيسى عليه السلام من غير أب، كان صمتها أبلغ من أي نقاش مع قومها، ومع ذلك، لم يكن صمتها انسحاباً من الحياة، بل استجابة حكيمة للسياق الاجتماعي والديني الذي واجهته.
هذا يطرح سؤالاً فلسفياً: هل الصمت هو أداة للتهرب من الواقع أم وسيلة للتفاعل الواعي معه؟
       الخلوة، بمعناها الإسلامي والروحي، تقدم بعداً آخر للتجربة الإنسانية للصمت والانفراد بالنفس. على الرغم من ارتباطها بالاستغراق الروحي، إلا أن سوء فهمها قد يقود إلى الانعزال الاجتماعي والانسحاب من الحياة أو الشعور بالاستعلاء على الآخرين.
هنا تتجلى جدليّة الحرية الفرديّة مقابل الالتزام المجتمعي، حيث يتعين على الفرد موازنة الانسحاب المؤقت مع المشاركة الفاعلة في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة.
       من منظور الفقه الإسلامي، الخلوة لها أبعاد متعددة: خلوة محرمة، خلوة شرعية صحيحة، وطبيعية، وكل حالة تثير أسئلة حول الحدود الأخلاقية والاجتماعية للانعزال. هذه التصنيفات تضعنا أمام إشكالية معاصرة: بحيث كيف يمكن استثمار الخلوة والصمت لصالح النمو النفسي والروحي دون الوقوع في الانفصال عن المجتمع أو الانعزال الأخلاقي؟
       تجارب الرجال والنساء في ممارسة الخلوة تظهر أن الصمت الذكي والموجه يمكن أن يكون أداة للهيبة والذكاء الاجتماعي، وليس مجرد وسيلة للعزلة أو السيطرة. إذ يظهر أن القدرة على الامتناع عن الكلام، والتحكم في الجدال، تتيح للفرد الفرصة للحكم بصمت على المواقف واتخاذ قرارات مدروسة.
هذا يقودنا إلى سؤال نقدي: هل القدرة على الصمت والامتناع عن الكلام مؤشر على النضج العقلي والروحي، أم أنها مجرد وسيلة اجتماعية لإظهار القوة؟
       في النهاية، الصمت والخلوة ليسا ممارسة سطحية، بل أدوات نقدية وروحية تفتح آفاق التفكير حول العلاقة بين الفرد، الذات، والمجتمع. إنهما يثيران عاصفة من التساؤلات حول معنى الكلام، القوة، الحرية، والانتماء الاجتماعي، مما يجعل تجربة الصمت تجربة جدلية غنية، محفزة للتفكر العميق، ودعوة لإعادة قراءة الذات في سياقها الروحي والاجتماعي.

* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...