ذ.عبد القادر الفرساوي
قرار حلف شمال الأطلسي (الناتو) بفتح مكتب اتصال في الأردن يبدو كأنه محاولة جديدة من الغرب لتثبيت قدميه في منطقة الشرق الأوسط، ولكن هل يمثل هذا القرار تحولاً جادا أم مجرد ضجيج لا يحمل في طياته تغييرا حقيقيا؟ مع ما تشهده المنطقة من اضطرابات وتغيرات في توازنات القوى، يبدو أن المكتب الجديد قد يكون أشبه بمستشفى ميداني في ساحة معركة يُشرف على نهايتها من بُعد، بدلاً من أن يُنقذ ما يمكن إنقاذه.
يأتي هذا القرار في سياق حملة مناورات لاحتواء صعود قوى مثل الصين وروسيا. فبينما يتكاثر الحديث عن انسحاب الغرب من قضايا المنطقة، يحاول الناتو الظهور بمظهر الحليف الذي لا يزال هنا للدفاع عن المصالحوالغربية، أو على الأقل لحماية بقايا تلك المصالح التي تتآكل شيئا فشيئا. هذا التحرك الذي يسعى لتسويق نفسه على أنه دعم للأمن الإقليمي، يعكس أكثر من مجرد اهتمام أمني، بل يظهر حرصا واضحا على إبقاء قدم للغرب في مستنقع تنافس القوى العظمى على حساب استقرار المنطقة.
ورغم الدعاية المكثفة، يواجه الناتو تحديات كبرى تُظهر هشاشة هذا التحرك. فالقوى الغربية، خاصة الولايات المتحدة، أصبحت مشغولة بمعارك أخرى أكثر أهمية، مثل احتواء النفوذ الصيني في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ونزاعاتها مع روسيا التي تمتد من أوكرانيا إلى أماكن أخرى. هذه التحولات تضع قيودا على قدرة الناتو على تقديم دعم حقيقي للشرق الأوسط، ليبدو وكأنه يحاول سد الفجوات ببعض الرمزية والإعلانات الإعلامية دون قدرة على تقديم حلول فعالة.
في ظل هذا السياق، تبدو منطقة الشرق الأوسط وكأنها ساحة مفتوحة لاختبار النفوذ بين القوى الكبرى. فمنذ أن بدأت دول المنطقة تتجه نحو تنويع تحالفاتها، باتت الصين وروسيا تستغلان هذا الفراغ، وكلٌ منهما بطريقتها الخاصة. الصين تُبدي اهتماما دبلوماسيا كبيرا، لكنها تتجنب المغامرة في المجال الأمني، بينما تحاول روسيا اللعب على وتر التواجد العسكري والدعم الأمني، وإن كان بطريقة تكتيكية تخدم مصالحها المباشرة. وسط هذا الصخب، يبقى السؤال: هل يستطيع الناتو الصمود أمام موجة التحولات الكبرى؟ أم أن مكتبه الجديد في الأردن مجرد خطوة تهدف لإرضاء بعض الحلفاء والتظاهر بالحضور دون التورط في التزامات حقيقية؟
إن فتح المكتب يبدو كأنه محاولة لتحسين الصورة أكثر من كونه استجابة لحاجة أمنية حقيقية. فالأردن ليس بحاجة إلى مكتب للناتو لإظهار التزامه بالتعاون مع الغرب، بل إن هذا المكتب قد يكون مجرد قناة إضافية لتبادل الرسائل السياسية أكثر من كونه مركزاً لتنسيق أمني فعلي. فما الفائدة من هذه الواجهات الدبلوماسية إذا كانت السياسات الغربية في المنطقة غير قادرة على مواكبة التحولات السريعة؟ربما يمكن للناتو أن يفتتح مكاتب في كل دول المنطقة،لكن ماذا بعد؟ وهل تعني هذه الخطوات زيادة في الأمان أم مزيدا من التوترات؟ يبدو أن الناتو يحاول إقناع الجميع بأن وجوده يعني الاستقرار، رغم أن حقائق الأرض تقول عكس ذلك. فتح مكتب في الأردن لن يغير من الواقع شيئا إذا لم يكن مصحوبا بخطة واضحة وأهداف ملموسة تتجاوز الشعارات. إنه أشبه بحفلة زفاف باهتة تفتقر إلى العروس.
يبدو أن الناتو يواجه معضلة الظهور بمظهر المتحكم القوي رغم أنه يتحرك بمساحات ضيقة وقدرات محدودة. لذا، تظل التساؤلات مطروحة: هل يستطيع المكتب المقترح تغيير قواعد اللعبة في الشرق الأوسط أم أن ما نراه مجرد محاولة للظهور بشكل لائق على المسرح العالمي دون فاعلية حقيقية؟ الوقت وحده سيجيب.