حين تنقل الخرائط أو حين يتغير قلب العالم: المغرب في مفترق الطرق العسكرية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

عبد القادر الفرساوي

 

 

 

في عالم تتراقص فيه الحدود على إيقاع المصالح وتُعاد فيه كتابة الجغرافيا بالحبر العسكري، يلوح في الأفق تحول استراتيجي قد يُعيد رسم خرائط النفوذ العالمي. فها هي الولايات المتحدة، بثقلها العسكري ورمزيتها الجيوسياسية، تُفكر جديا في نقل مقر قيادة أفريكوم (AFRICOM) من برد شتوتغارت الألمانية إلى دفء المغرب، وتحديدا إلى مدينة القنيطرة، حيث تهمس الرياح بحكايات قديمة عن قواعد أمريكية رحلت يوما، وربما تعود اليوم إلى حيث بدأت.

لطالما كانت ألمانيا قلبا نابضا للوجود العسكري الأمريكي في أوروبا، لكن يبدو أن هذا القلب بدأ يبحث عن نبض جديد أقرب إلى الجنوب، حيث تضج إفريقيا بالتحديات والفرص. القرار، الذي لا يزال قيد الدراسة وفقا لما أوردته صحيفة ” لارّرثون” الإسبانية، ليس مجرد خطوة لوجستية باردة، بل هو إعلان عن توجه جديد في السياسة الخارجية الأمريكية، توجه يُعيد للمغرب مكانته كحليف لا غنى عنه في لعبة الأمم.

لماذا المغرب؟ ولماذا الآن؟ أسئلة تتردد في أروقة السياسة وتُجيب عنها الأفعال قبل الأقوال. فالمملكة المغربية، بموقعها الجغرافي الذي يربط قارتين وبثباتها السياسي الذي يندر في محيطها الإقليمي، تُقدم نفسها كخيار مثالي. لكن المسألة أعمق من ذلك؛ هي عودة الروح إلى ذاكرة القنيطرة، المدينة التي احتضنت يوما قاعدة عسكرية أمريكية كانت تُعرف بـ”بور ليوطي”، حيث كانت طائرات الحرب تُحلق فوق سماء الأطلسي قبل أن تخبو أصواتها منتصف السبعينات. واليوم، ها هي القنيطرة تقف على عتبة التاريخ مجددا، تنتظر عودة من غادرها.

نقل أفريكوم إلى المغرب ليس مجرد تغيير في العنوان، بل هو تحرك استراتيجي يُعيد توزيع أوراق اللعبة في إفريقيا. القارة التي باتت مسرحا لصراع القوى الكبرى، حيث تمد روسيا أذرعها العسكرية في الساحل، وتغرس الصين أنيابها الاقتصادية في أعماق المناجم، تجد نفسها اليوم على موعد مع عودة أمريكية مختلفة.

في هذا السياق، لا يبدو أن الولايات المتحدة تريد فقط استعادة موطئ قدم في القارة، بل تسعى إلى قلب المعادلة برمتها، مستخدمة المغرب كنقطة ارتكاز لمراقبة الجنوب وإعادة ضبط إيقاع الأمن في منطقة الساحل. هذه المنطقة، التي تُعاني من تصاعد التهديدات الإرهابية وتنامي النفوذ الأجنبي، قد تجد في المغرب الحليف المثالي لإعادة فرض الاستقرار، لا بالقوة وحدها، بل بشراكة تمتد من الدبلوماسية إلى التنمية.

مدينة القنيطرة ليست مجرد اسم على الخريطة؛ هي ذاكرة حية تنبض بحكايات الجنود الأمريكيين الذين جابوا شوارعها يوما، وصوت البحر الذي حمل أخبار الحرب والسلام. واليوم، قد تعود هذه المدينة لتكون شاهدا على فصل جديد من الشراكة المغربية-الأمريكية، ليس فقط كقاعدة عسكرية، بل كرمز لتحول استراتيجي يُعيد للمغرب دوره كمفتاح للأمن في إفريقيا.

إن عودة القنيطرة إلى الواجهة ليست مجرد حنين إلى الماضي، بل هي استثمار في المستقبل. فالمغرب، الذي استطاع أن يبني سمعة قوية كشريك موثوق في مكافحة الإرهاب، يملك اليوم فرصة لتحويل هذا الإرث العسكري إلى منصة دبلوماسية تعزز من مكانته في الساحة الدولية.

سواء تم نقل أفريكوم إلى المغرب أو لا، فإن مجرد التفكير في هذا الخيار يكشف عن تحول عميق في العلاقات الدولية. فالمغرب، الذي كان يوما طرفا في معادلة إقليمية، أصبح اليوم لاعبا محوريا في الساحة العالمية. وبين الماضي الذي يسكن شوارع القنيطرة والمستقبل الذي ترسمه السياسة، يقف المغرب على عتبة مرحلة جديدة، حيث لا تُرسم الحدود بالحبر فقط، بل بالتاريخ والجغرافيا والدبلوماسية.

إنه زمن تتغير فيه المواقع، لكن تبقى الحقائق راسخة: المغرب لم يعد مجرد بوابة إلى إفريقيا، بل أصبح قلبها الذي ينبض بالأمن والتعاون والشراكة.

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...