عبد الله مشنون
كاتب صحفي مقيم في ايطاليا
بصفتي إعلاميًا ومهتمًا بالقضايا الإسلامية والفكرية، ومتابعًا للشأن الديني ولأوضاع الجالية المسلمة هنا في إيطاليا وأوروبا عامة، ألاحظ أن قضية الروايات المنسوبة للنبي سيدنا محمد ﷺ باتت تثير كثيرًا من التساؤلات، خاصة لدى شريحة الشباب المسلم. ففي زمنٍ تتسارع فيه التكنولوجيا، وتنتشر فيه المعلومات والفتاوى والأقوال الدينية عبر وسائل متعددة، أصبحت الحاجة ملحّة لفهم هذا الموروث العظيم بروح نقدية مسؤولة، تُعيد الثقة بما هو أصيل، وتفتح باب المراجعة لما يحتاج إلى تدقيق.
الموروث الإسلامي في مسألة الأحاديث المنسوبة للنبي سيدنا محمد ﷺ أحد أغنى مصادر التشريع والتوجيه، لكنه أيضًا مجال للنقاش العلمي الجاد والتدقيق المعرفي المستمر. هنا بعض الحقائق والتساؤلات التي تستحق الدراسة بعمق، بعيدًا عن المواقف الانفعالية، لإنضاج التفكير وإبراز التوازن بين الإيمان والعقل.
1. الصمت التاريخي لكبار الصحابة… هل رجوع إلى المصادر ضروري؟
من الملاحظ أن عددًا من كبار الصحابة الذين عاشوا مراحل مفصلية في تاريخ الدعوة الإسلامية – كالصحابة الذين احتضنتهم دار الأرقم، أو من اشتُهِروا بدورهم في معارك الحصار في مكة أو معركة بدر أو مع أهل الفتح – لم يصل إلينا من رواياتهم إلا القليل جداً، رغم قربهم الزماني والمكاني من سيدنا النبي محمد ﷺ.
ما تفسير هذا الغياب؟ هل هو نقص في الحفظ؟ أم أن الأحاديث قد فُقدت بسبب التحولات التاريخية، أو ربما لم تُكتب إلا بعد فترات طويلة، أو ربما لم تُقبل رواياتهم لأسباب متعددة؟
إن هذا الواقع يطرح أهمية إعادة تقييم المصادر الأولى – السيرة، التابعين، كتب الرواة – لمعرفة كيف أثّر الزمن والسياسة والتنقل على تواتر الرواية.
2. التوثيق والعدالة: كيف يُقيّم العلماء روايات الرواة الذين ارتكبوا أخطاء سياسية وأخلاقية؟
في علم الحديث، شرط “العدالة” للرواة يعني أن يكونوا متقين، صالح السيرة، بعيدين عن المعاصي الكبيرة التي تؤثر في ثقة الناس بهم. لكن تاريخ الرواة ليس خاليًا من الجدل:
بعض الرواة الذين وثّقهم أصحاب الكتب الستة كانوا يشاركون في صراعات سياسية أو معارك يُنظر إليها بأثر أخلاقي وسِياسي، مثل من قاتلوا الحسين بن علي أو من شاركوا في حصار المدينة أو جدولوا في قصف الكعبة.
السؤال الجوهري: هل مشاركة شخص ما في نشاط سياسي مخالف أخلاقيًا يجب أن تُنْقِص من عدالته في نظر علماء الحديث؟ وما المعايير التي اعتمدها العلماء لتصفية هذا النوع من الروايات؟
هناك فروقات بين العلماء في هذا المجال: بعضهم يرى أن العدالة تغطي المظهر الظاهر فقط، بشرط أن لا يكون هناك التباس أو إقرار من الراوي أو أهل زمانه بخطيئة شنيعة تؤثر على الموثوقية.
3. الأرقام والأسفار: هل يمكن قبول رواية أن أربعة صحابة فقط رواوا نسبة كبيرة من الأحاديث؟
من الإحصائيات التي يوردها بعض الباحثين أن أكثر من 40٪ من الأحاديث في مجموع الأحاديث المنقولة قد وردت عبر عدد قليل من الصحابة؛ كأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وأنس بن مالك، وعائشة رضي الله عنها. وهذا يطرح تساؤلات مثل:
كيف يمكن أن يكون هذا العدد الضخم من الروايات محصورًا في عدد قليل من الرواة، فيما لا يُنسب لآخرين إلا القليل؟
هل يتعلق الأمر بكثافة الحفظ والمشاركة في النقل، أم أن هناك تفضيلًا تاريخيًّا أو ثقافيًّا لبعض الصحابة دون آخرين؟
هل أثر هذا الأمر على التنوع العلمي في الحديث، أو ربما أدّى إلى تحيّزات في قبول بعض الروايات على حساب روايات أقلّ شهرة رغمها ممكن أن تكون صحيحة؟
4. السياسة والرواية: التأثيرات التي لا تُرى من الوهلة الأولى
من الحقائق التي لا تُناقش كثيرًا أن السياسة التاريخية لعبت دورًا مؤثرًا في نقل الروايات وتقييمها:
في فترات الدولة الأموية، كانت هناك صراعات سياسية وشخصيات لها نفوذ، وهذا ربما أثّر في من يُروّج له من الرواة ومن تُعطى رواياته وزنًا أكبر.
علم الجرح والتعديل نفسه تطّور عبر قرون، وكان دائمًا مرتبطًا بالظروف الاجتماعية والسياسية، بمدى الانتماء القبلي، السياسي، أو حتى تأثير الدولة القائمة.
لا يمكن تجاهل أن بعض الروايات كانت تُستخدم لسياقات سياسية – لتبرير بعض السياسات أو إثارة مواقف مذهبية – مما يعني أن النقد العلمي يجب أن يفكك الرواية من سياقها، لا فقط من تراسلها.
5. نحو مقاربة جديدة: الإيمان العلمي والموضوعية
لكي يُبنى فهم متوازن لرواة الحديث وللنصوص المنقولة عن سيدنا النبي ﷺ، لا بدّ من:
إعادة مراجعة المصادر الأولية: السير والتواريخ والرواة، ومقارنة رواياتهم، وفهم أسباب اختلافها أو ضعفها إن وُجد.
استخدام المعايير الموضوعية لتقييم الرواة: ليس فقط العدالة اللفظية، بل مستوى الحفظ، التواتر، الاتفاق بين المرويات، وسياق النقل.
التمييز بين النص المقبول والعقيدة: فالإيمان بفضل الحديث النبوي كمصدر للسنّة لا يلغي الحاجة للنقد والتنقية، حتى يعمّ الفهم والرأي بحق.
إشراك البحث الأكاديمي المعاصر الذي يستخدم المنهج النقدي والتاريخي لفهم كيف وصلت إلينا الروايات، وما هي العوامل التي احتمت بها بعضها أو ضاعت بعضها الآخر.
الحوار في هذه القضايا ليس تأريخًا سلبيًا، بل تجديد لعلاقة المؤمن بالرواية، علاقة تُشبه العهد: عهد التمسّك بالنص مع مراعاة العقل والضمير.
إن الروايات المنسوبة لسيدنا النبي محمد ﷺ هي ميراث عظيم، ولكنها أيضًا مسؤولية: مسؤولية البحث، التحقيق، والوضوح أمام الله وأمام الأجيال القادمة.
إذا رعى المسلمون هذا الجانب العلمي، لن تبقى الرواية مجرد نص متواتر، بل نص حيّ يُعيشه الإنسان بالأمانة والصدق، ويُشار به إلى السموّ الأخلاقي والروحي.