تازة قبل غزة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 الكاتبة: لبنى الفلاح – الحياة اليومية

 

 

للعنوان دلالة ورمزية خاصة لديَّ شخصيا؛ فتازة هي المدينة الأصل التي حملتني بين أحشائها ورضعت من حليبها أصول المعرفة، غزة هي رمز العِزَّة وبين حروف اسمها تروى قصص وحكايات من الصمود والبطولة والكبرياء تُسطر ملحمة تاريخية من النضال والمقاومة والحرية على أرض الشهداء وقلعة المجاهدين.
«تازة قبل غزة» خطاب دارِج ابتدَعه المُطبعون ليس لأنهم يريدون خيرا بتازة المدينة المغضوب عليها والتي أصابتها لعنة تاريخية أوقفت عجلة اقتصادها وأثرت اجتماعيا على سكانها لارتباط اسمها بسلسلة من التمردات والأحداث التي جعلتها تدفع ثمنا باهظا منذ عصر «بوحمارة» وصولا إلى محاولة الانقلاب في عام 1972. حصن المغرب القديم أيضا (تازة)، تقع بالشمال الشرقي للمملكة بين جبال الأطلس وجبال الريف حيث ستشهد المملكة في عام 2016 احتجاجات حراك الريف التي اعتقل على إثرها عشرات الشباب الذين طالبوا بتحريك عجلة التنمية في المنطقة التي حكم عليها أن تظل مهمشة.

يروج المطبعون المُطَّبلون للعبارة «تازة قبل غزة» ليس حبًّا في تازة، ولكن تعبيرا عن رفضهم للدفاع عن القضية الفلسطينية وحق هذا الشعب في إقامة دولته وعاصمتها القدس الشريف، وكذلك رفضا للإدانة الشعبية المغربية لجرائم الحرب وللإبادة الجماعية لجنرالات الكيان المحتل، والتي خلفت بحسب الأرقام النهائية لوزارة الصحة الفلسطينية منذ السابع أكتوبر 2023 ما مجموعه 48 ألفا و189 شهيدا و111 ألفا و640 مصابا وأكثر من 14 ألف مفقود وسط دمار هائل.
الحديث عن القضية الفلسطينية لن يمر دون الوقوف عند سلسلة من الجدل حول صفقات الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» المزعومة لشراء أراضٍ ليست للبيع بدءًا من قطاع غزة وصولاً إلى جزيرة «غروينلاند» الدنماركية، إذ لم يكتفِ فقط بمحاولات إعادة صياغة سياسة أمريكية داخلية على المقاس بل امتدت طموحاته إلى إعادة تشكيل خريطة العالم بمنطق الصفقات.
مباشرة بعد اتفاق وقف إطلاق النار في الـ15 يناير 2025، انتقلت القضية الفلسطينية من مخطط إبادة عرقية تنفذه إسرائيل وتدعمه أمريكا إلى مخطط جديد للتهجير من الأرض في إطار عملية بيع وشراءٍ دخلت المزاد العلني الدولي؛ المشتري هو ترامب رجل الصفقات بامتياز، والبائع قيادات عربية ركِبَت قطار التطبيع الذي أطلقه نفسه الرئيس الأمريكي، خلال ولاية أولى عبر صِهْرِه رجل الأعمال أيضا «جاريد كوشنير».

حتى اللحظة، تقول الأنباء القادمة من الشرق الأوسط إن الأردن ومصر مصرتان على رفضهما لخطة التهجير التي دعا إليها ترامب؛ ملك الأردن قال في تغريدة على موقع «إكس» نشرها بعد نهاية اللقاء الذي دار بينه وبين الرئيس الأمريكي: «لقد أعدت التأكيد على موقف الأردن الثابت ضد التهجير للفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. وهذا هو الموقف العربي الموحد. يجب أن تكون أولوية الجميع إعادة إعمار غزة دون تهجير أهلها، والتعامل مع الوضع الإنساني الصعب في القطاع»، فيما قال الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مِرارا إن «مصر لن تشارك مطلقاً في تهجير واسع للفلسطينيين عبر الحدود»، كما أكدت تقارير قادمة من مصر بأنه لن يسافر إلى واشنطن لإجراء محادثات في البيت الأبيض، إذا كان جدول الأعمال سيشمل خطة الرئيس الأمريكي لتهجير الفلسطينيين من قطاع غزة.

تأتي هذه الردود في الوقت الذي مارس الإعلام الإسرائيلي – الأمريكي ضغوطا مباشرة بعد استقبال ترامب لملك الأردن، والتي أظهرت هذا الأخير خانعا مُستسلما لترامب الذي يعي جيدا بأن صفقات من هذا النوع تحتاج إلى إثارة وتشويق حقيقيَين، وطبعا هذا لن يتأتى دون الاستعانة بـ«إيلون ماسك» المالك لمنصة «إكس»، وكشخصية مؤثرة ومقربة من ترامب حيث العلاقة بينهما مبنية على مزيجٍ من المصالح المشتركة والأفكار المتقاطعة خاصة بعد قيادة ماسك للحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية في الخامس من نونبر 2024، التي حملت مرشح الحزب الجمهوري إلى البيت الأبيض بأزيد من 72 مليون دولار في إطار لجنة «أمريكا باك»، يَخْبِرُ (ماسك) جيدا كيفية التسويق لبرامج ترامب وخططه السياسية، خاصة أن المنصة من أوسع المنصات الرقمية انتشاراً بعدد مستخدمين حول العالم يقدر بنحو 250 مليون مستخدم يومياً.
في زمن العولمة، صورة واحدة تُساوي ألف كلمة، وهناك من يقول إن صورة واحدة تُساوي مليون كلمة، فلكل صورة لغتها وخِطابها، بحيث تسمح بالحقيقة المراد إظهارها بتوجيه الرأي العام إلى إنشاء فكر يخدم قضية ما، سواء كانت أخلاقية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية. كما أن الناس يتذكرون نسبة 10% فقط مما يسمعونه ونسبة 30% فقط مما يقرأونه، في حين يصل ما يتذكرونه من بين ما يرونه أو يقومون به إلى نسبة 80%، وهو ما لا يخفى على «إيلون ماسك» ولا على ترامب.
الصورة اليوم لم تعد وسيلة فقط من وسائل الإشهار لتحبيبك في منتوج ما أو العكس، وإنما أصبحت أداة تستغل من طرف الهياكل الاستعمارية وأصحاب المصالح لفرض سيطرتهم والترويج لأفكار يتعمّدون زرعها في هذا الإنتاج البصري الملغوم، مما يعني أننا في عملية استعمار دائم، وهو ما حدث بشأن القضية الفلسطينية حيث عناصر الجيش الإسرائيلي خرجت ذليلة من القطاع بينما الصور تشير إلى أن استعمارا راهنا مستمرا تحاول أمريكا بسطه في العقول.

وإلى حدود اللحظة، مازالت الصور التي تتدفق إلينا وتداولناها على نطاقٍ واسع متهكمين من خنوع ملك الأردن كذب صادق، فالصور حقيقية وإيحاءاتها السيميائية تعلن عن فكرة مسبقة لنتيجة اللقاء. وبعيدا عن الصور فالواقع يقول شيئا آخر إذ مازالت الأردن حتى حدود اللحظة ترفض خطة ترامب للتهجير، مع أن الروايات التاريخية والأحداث التي شهدها العالم العربي جعلت كذب صور اللوبي الإسرائيلي الأمريكي أكثر صِدقا، ولنا في العراق المثل، حيث تبدأ القصة عندما خرج رئيس وزراء العراق «محمد شياع السوداني» على إثر استهداف الجيش الأمريكي مع بداية طوفان الأقصى لمقر من مقرات الحشد الشعبي وهي القوات الرديفة للجيش العراقي، (خرج) يُقسم بأغلظِ الأيمان بإنهاء العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، غير أنه وبعد حوالي 22 دقيقة من هذه التهديدات رد مسؤول بالكونغرس في مؤتمر صحفي، بأن رئيس الوزراء العراقي اتصل بالإدارة الأمريكية بعد عشر دقائق من تصريحاته العنترية، ليخبرها بأن خطابه موجه للاستهلاك المحلي وبأن العلاقات العراقية الأمريكية مستمرة وهي سمن على عسل.
ليس هذا فقط، فالأنظار تتوجه صوب الأردن ومصر نتيجة التهديدات التي أطلقها ترامب بخصوص وقف واشنطن للمساعدات التي تقدمها لهاتين الدولتين العربيتين إذا لم يستقبلا فلسطينِيي غزة. فبلغة الأرقام تعد الأردن واحدة من أكبر متلقي المساعدات الخارجية الأمريكية على مستوى العالم، وقد شهدت الإعانات المقدمة لها تطورا كبيرا إذ تضاعفت 3 مرات خلال الـ15 سنة الماضية.
ووفقا لمكتب خدمات أبحاث الكونغرس، فقد بلغت القيمة الإجمالية للمساعدات الأمريكية للأردن، التي تشرف على إدارتها وزارتا الخارجية والدفاع، نحو 26.4 مليار دولار حتى نهاية السنة المالية 2020، كما أظهرت البيانات أن الأردن تلقت مساعداتٍ أمريكية بلغت 1.69 مليار دولار في عام 2023، مما يضعه في المرتبة الثانية لأكبر متلقي الدعم الأمريكي بعد إسرائيل. وقد توزعت هذه المساعدات بين عسكرية بنسبة 25 بالمئة، واقتصادية بنسبة 75 بالمئة.
كما أن البَلَدان الأردن وأمريكا قد وقَّعَا في 16 شتنبر 2022 مذكرة تفاهم تعد الرابعة من نوعها، تنظم إطار المساعدات الخارجية الأمريكية للأردن على مدى 7 سنوات انطلق العمل بها في عام 2023 وستنتهي في العام 2029، وتتضمن التزام الإدارة الأمريكية بالسعي لتأمين مساعدات اقتصادية وعسكرية سنوية للأردن بقيمة 1.45 مليار دولار.
أما بالنسبة لمصر، فالمعطيات الصادرة عن وزارة الخارجية الأمريكية، تؤكد أن إجمالي مساعدات واشنطن للقاهرة خلال عام 2023 بلغ 1.5 مليار دولار تتوزع بين العسكرية بقيمة 1.215 مليار دولار، والتعليمية بقيمة 26.28 مليون دولار، ثم الاقتصادية بقيمة 24.88 مليون دولار.

وبغض النظر عن تصريحات ملك الأردن والتقارير الصادرة عن مصر أو حتى الصور المتدفقة عبر منصات التواصل الاجتماعي، فإن الأيام القادمة ستكشف بأن إسرائيل خسرت معركتها الأولى ضد فلسطين التي انطلقت في السابع أكتوبر وستخسر معركتها الجديدة سيما مع الحِراك العالمي الذي دعت إليه حركة المقاومة «حماس»، والذي سيكرس من جديد الفشل الإسرائيلي وربما سيزيد من تعميق الشرخ بين الشعوب العربية وقادتهم، ولربما قد يسفر الأمر عن مفاجأة تفند المثل القائل «ليس في القنافذ أمس».
عودة إلى أصحاب شعار: «تازة قبل غزة»، كيف حالكم؟ هل أحسستم بهزة الزلزال التي ضربت مدن كثيرة بقلب البلاد بداية الأسبوع الجاري، وهل تذكرتم إخوانكم هناك في حوز البلاد تلك الفئة المقصية من رحمة مسؤولين في الدولة؟
وصور خيام المتضررين البلاستيكية تنط لأذهانكم رثَّة ممزقة بحصى البَرَدْ غارقة في مستنقعات الوحل ومياه الأمطار على قِلَّتها، هل تذكرتم أن الصندوق الذي تم إنشاؤه لإعمار منطقة الحوز قام بإعمار جيوب مفسدين من المنتخبين وبعض سماسرة الأزمات ليس إلا، وبأن الشخص الوحيد الذي ظل يتكلم (سعيد أيت مهدي) تم اعتقاله وإدانته بثلاثة أشهر حبْسا نافذا؟ هل رددتم شعار: «تازة قبل غزة»؟ أكيد ما سمعنا بهذا، فالصوت مبحوح أمام إرادة السلطة.
حسنا، لا نطلب منكم الصراخ في وجه أحد فقد يُعتبر الأمر تحريضا على ارتكاب جرائم وجنح يعاقب عليها قانون الصحافة والنشر كما قد نُعْتَبَرُ «شيطان الجريمة» وتكيَّف لنا المتابعة وفق مقتضيات القانون الجنائي بما أن القانون الذي يحكمنا مليء بالثغرات والممرات المؤدية إلى السجن. فقط سنكتفي بسؤالكم عن المساكن التي تم تشييدها في المناطق المتضررة بميزانية بلغت 12 مليار دولار، أم يبدو أن عملية إعمار غزة في المرحلة الثالثة من اتفاق وقف إطلاق النار بأكثر من 53 مليار دولار، سيتم قبل إعمار الحوز.
وبعيدا عن الحوز، هل تعلمون أن إقليم تازة يبنيه أبناؤه من الجالية المقيمة بالخارج وبأن الدولة شبه غائبة خاصة في مناطقه النائية وبأن منها ما لا يصله طريق وبالأحرى التنمية، رغم جمال المنطقة وناسها.

طيب هل مازلتم تتذكرون أبناء جبال الريف؟ نعم هم كذلك: ناصر الزفزافي ونبيل أحمجيق ومحمد جلول وباقي الرفاق المحكومون بعقوبات متفاوتة بلغت حتى 20 سنة، هل طالبتهم بإطلاق سراحِهم؟ أيضا هل تذكرتم شيخ المعتقلين السياسيين وزير حقوق الإنسان السابق؟ نعم النقيب محمد زيان الشيخ ذو الـ83 عاما، الريفي الأصل الذي تصدق على وضعه حقا «تازة قبل غزة» هل تحركتم قبل فوات الأوان؟ طبعا لا.
ألم يؤسفكم وضع البلد التي تشهد في شهرٍ واحدٍ ستَّ محاكماتٍ؛ إحداها للحقوقي فؤاد عبد المومني، وأخرى للنقيب محمد زيان، وأخرى للمناهض للتطبيع رضوان القسطيط، وأخرى للكاتب العام لشبيبة العدل والإحسان بوبكر الونخاري، ومحاكمتان اثنتان للصحفي حميد المهداوي. إننا حقا في حالِ أزمةٍ إلى جانب أزيد من تسع دول عربية أخرى تذيَّلت تصنيف حرية التعبير معنا، في ظل واقعٍ مأزوم يطبعه الغلاء وزواج المال بالسلطة واحتكارها من طرف قلة حاكمة وغياب العدل والعدالة وارتفاع معدلات البطالة والفقر وغياب الصحة والتعليم والكرامة، وهي كلها أمور تؤشر على أنه بات مُلِحا ضرورة توفر مناخٍ حر، إذ لا يمكن الحصول على أية تنمية أو إنتاجية مع غياب حرية التعبير التي تكرسها الممارسات المخزنية، فالإشكال لن يتم حله عن طريق اللجان والصناديق والجمعيات والمجالس المؤدى عنها أو مواثيق لا تُحترم، وإنما لابد من توفير أجواء الحرية الحقيقية فلا تنمية بدون حرية.

وعموما فالحريات السياسية هي طريق التنمية الاقتصادية، التي تنبني بدورها على مرتكزات ديمقراطية عديدة، تتجلى في إرساء نظام للتعددية السياسية ومشاركة المواطنين في اتخاذ القرار من خلال عقدٍ اجتماعي مدني بين السلطة والشعب وتوفير قضاء عادل وفصل بين السلط وربط المسؤولية بالمحاسبة، وكذا تدعيم المواطنة الحقة واللامركزية في تدبير الشأن العام، بما يشجع المبادرات المحلية والتنمية المجالية، ويضمن أيضا توزيعاً عادلاً للثروات الوطنية في كل ربوع الوطن، ويساعد في تقريب الخدمات للمواطنين من أمن وتعليم وصحة، أما إذا غابت كل هذه الأمور فانتظر الساعة، إذ الانتفاضات كما يقول الاقتصادي وعالم الاجتماع المغربي المهدي المنجرة في كتابه «زمن الذلقراطية»: «(الانتفاضات) لم تأتِ من فراغ ولا من عدمٍ، لم تأتِ من انقلاب ولا من تآمر. أتت من اختمار ماضٍ مر ومتردي، من حاضر ملؤه اليأس ومن أمل في المستقبل يتغيَّى البديل الجذري لا الترقيع المرحلي المجفف أو الحلول الوسيطة المهادنة.. هي ثورة على الذل والإهانة واحتقار السلط الحاكمة لشعوبها التي منذ حصولها على استقلالها، وهي تطالب من حكوماتها الوطنية أو من مستعمرها الوطني بالعدالة والكرامة والمساواة والحرية، ولم يكن رد الأنظمة المتسلطة الحاكمة سوى مزيد من القهر والتجويع»، انتهى كلام البروفيسور المهدي المنجرة.

إيطاليا تلغراف

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...