لبنى الفلاح
إعلامية مغربية
في كل جلسة محاكمة تكون الحركة على غير العادة هرجٌ ومَرَج؛ سيارات الخِدمة لعناصر الأمن الوطني وثانية للدرك وأخرى مدنية ودراجات نارية. ضغطٌ غير مألوف بردهات محكمة الاستنئاف بالرباط؛ وجوه شاحبة تهرول نحو المجهول وأخرى تكاد تَبلع رِيقها من هول صدمة الأحكام.
بالقاعة المقابلة للباب الرئيسي للمحكمة وهي القاعة «4»، حيث سأتواجد لحضور محاكمة وزير حقوق الإنسان السابق النقيب محمد زيان، الحركة متوترة؛ عناصر أمن بزي مدني بعدد كبير وأخرى بزي رسمي أزرق داكن و«مخزني» بزي أخضر غامق. ممثلو الهيئات الحقوقية أيضا حضروا هذه المرة كما دائما لمراقبة سير المحاكمة.
في آخر القاعة من جهة اليمين يجلس عناصر الأمن المدني، ومن جهة اليسار ستجد أبناء النقيب زيان وأفراد من عائلته ومعارفه ومواطنون لا يعرف بعضهم بعضا لكن الجميع يُلقي التحية ويُهدي ابتسامة تبدِّد القلق. بعد قليل سيحضر النقيب محمد زيان مرتديا بدلة زرقاء داكنة منتصب القامة يتحرك بخطى متأنية ثابتة. ها هو يقترب منا ببطء شديد مُحاطا بفيلق من أصحاب البذلِ الرمادية وهم على كل حالٍ من جهاز الدرك الملكي. يلقي التحية مبتسما يسأل عن حالنا وأحوالنا عَلَّنا أحسن منه، بينما هم يصدوا كلما اقترب.
تبدأ أطوار الجلسة: «باسم جلالة الملك وطبقا للقانون نفْتتح الجلسة. قضايا المناقشة رقم الملف: 2024/2626/23. محمد زيان، رشيد. ب وم. ش».
يقترب النقيب محمد زيان محاطا بعناصر من الأمن بينما «ر. ب» بمفرده، فيما الثالث مكانه بين مقاعد المحامين. بعد جلوس الثلاثة يأخذ الجميع أماكنهم؛ يبدو النقيب زيان مُصغيا في منبر الاتهام وسَجِيَّتَه القانونية لا تغادِرُه. ثم ينطلق المحامون في تقديم ملتمساتِهم ودفوعاتِهم الشكلية باستفاضة وإفاضة والحال أنهم يعلمون عِلْم اليقين أن الأمر لا علاقة له بقانون ولا بمرافعات وإنما بملفٍ سياسي حِيكَ في آخر الليل.
قاضي الجلسة هذه المرة وعكس المحاكمات التي حُوكَِم فيها النقيب محمد زيان وهي كثيرة تتجاوز عدد أصابع اليد، تجده فصيح اللسان بليغ اللغة لا تكاد تمر فكرةٌ حتى يعقِّبُ ويعلِّق ببيان؛ وعموما يتمتع بمهارة عالية في فن الإنصات.
الجلسة الأخيرة كانت مختلفة شيئا ما فقد تناطح رجال القانون: القاضي والمحامي؛ تحدث رمز مؤسسة النقيب عن شجاعة القضاة في تحقيق العدل، بينما تحدث القاضي عن المنتوج القضائي الذي هو الحكم؛ وهي بالمناسبة محاكمة بإيقاع قانوني صِرف أدعو عموم المواطنين لمتابعة الجولة الأخيرة منها يوم الأربعاء المقبل 23 أبريل الجاري.
النقيب زيان وهو يتحدث عن شجاعة القاضي استنبط أسماءً كبيرة أمثال القاضيَيْن أحمد الزغاري ومحمد ميكو. وهنا لابد أن أتوقف برهة عند الرجليْن: القاضي الزغاري رئيس محكمة العدل الخاصة (ألغاها العهد الجديد)، المعروف بحنكته القانونية ونزاهته وصرامته، ثم القاضي ميكو وبحسب من عاصروه مدرسة فِقْهِية قضائية متميزة، مَلَكَ سحر البيان وقُوة الخطابة.
في كلمة النقيب زيان، قال إنه سأل في إحدى الجلسات التي جمعته كمحامٍ بالقاضي الزغاري في بداية مساره المهني الذي امتد لأزيد من خمسين حَوْلا، عن مصدر الشجاعة التي تحضره عندما ينطق بأحكام الإدانة؛ بخمسة عشرة سنة سجنا نافذا أو عشرَ سنوات سجنا نافذا أو خمس سنوات حبسا نافذا؟ ليجيبه القاضي الزغاري: بل اسأل عن الشجاعة التي تحضرني عندما أنطق بحُكم البراءة في حق متهمٍ وسط كل ما نعيشه من ضغوطاتٍ تمارس علينا.
وفعلا سند القضاء الحقيقي وعمود ارتكازِه وحصن استقراره وشموخه هو القاضي الشجاع، ولا يستقيم القضاء وتشيع العدالة إلاّ حينما يعزز القاضي من ثقته بنفسه، فنصف العدالة تموت حينما يشعر القاضي بالضعف ونصفها الآخر يموت حينما يغطي ضعفه بالاستقواء على الضعيف.
القاضي الشجاع هو رجل عبَّر عن شجاعته وجُرأَتِه في قول الحق وإنصاف المظلوم والتصدي لأصحاب السلطة في كثير من الأحكام القضائية؛ لا يتحزب ولا ينتمي لأي تنظيمٍ كما لا يُحسب على أحد.
القضاء هو الملاذ الأخير وإذا سقط سقطت الدولة، مِهنة لا تقبل المُساومة؛ يجد القاضي نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما ألا يخاف في الحق لومة لائم، أو أن يستقيل متى وجد أنه غير قادرٍ على تطبيق العدالة دون الرضوخ للتعليمات وإغراءات المنصب ويقْبل بفكرة الدفْع المسبق لتنفيذ التعليمات.
وها هي الملفات كثيرة يحق لي السؤال فيها: ماذا سيقول قاضٍ مُناطٌ به تحقيق العدالة لربِّه في ذلك اليوم الموعود حين يسأله ربُّ العِزَّة جلَّ جلاله: كيف سجنت طِفلة ذات 14 ربيعا؟! وبماذا سيجيب قاضٍ حكم بعاميْن حبْسا نافذا على شيماء بينما القائد يصول ويجول؟ وكيف سيجيب قاضٍ حكم على شباب الحسيمة بـ20 سنة سجنا نافذا؟ وليس بعيدا: ماذا سيجيب القاضي الذي حَكَمَ على شيخ المعتقلين السياسيين بثلاثِ سنواتٍ حبْسا نافذًا، ثم خمس سنواتٍ سِجنا نافذا، ثم ماذا جوابُ قاضٍ حَكَمَ على مواطنين بسطاء بتلك المناطق المنبوذة والمهمشة باهرمومو وبني ملال وزاوية الشيخ؟ وما قول القاضي الذي حكم على صحفي غادر السجن لِتَوِّهِ (الصحفي حميد المهدوي) بسنة ونصف حبْسا نافذًا و150 مليونا؟ وماذا عن النيابة العامة التي لم تَكَلْ يدها في تسطير المتابعة تِلو الأخرى بحقه وبحق غيره من الصحفيين جُرْمُهُم الكلمة؟ وبما أن لنفسي حق عليَّ: أي ضمير هذا حكم بـ100 مليون على صحفية شابة في بداية مشوارها المهني؟
بين التطبيق السليم للقانون والتطبيق العادل للقانون بون شاسع؛ فالتطبيق غير السليم يؤدي لُزُومًا إلى الظلم بينما التطبيق العادل للقانون يتحقق بتطبيق القانون لفائدة الضعيف والفقير المسلوبِ حُرِيَتُه. وبالتالي فوجود قضاء نزيه من مظاهر تحقيق العدل وتجسيده في أرض الواقع لا في النصوص القانونية وحسب، وهذا هو المُتعارف عليه كونيا في البلدان التي تحترم القوانين الإنسانية وتقدرها وتطبِّقها دون تحريف أو تلاعب أو استغلال للثغرات.
القانون العادل يحدد بالقوانين الواضحة والمعلنة والمستقرة والعادلة والتي تطبق بالتساوي بين أفراد المجتمع الواحد سواءٌ فُلان أو عِلان، وحماية الحقوق الأساسية بما في ذلك أمن الأشخاص والممتلكات، وهو أحد المبادئ الأساسية لسيادة القانون في أي بلد يحترم نفسه إلى جانب المساءلة ووجود حكومة منفتحة.
كما تتحقق سيادة القانون بقوانين تفرض قيودًا فعالةً على سلطة الدولة، وفي قاموس «بلاك» القانوني تنص على أن القرارات يجب أن تتخذ من خلال تطبيق المبادئ أو القوانين المعروفة دون تدخل السلطة التقديرية للقاضي في تطبيقها. وعموما هو عملية تدعم المساواة أمام القانون بين جميع المواطنين وتمنع الاستخدام التعسفي للسلطة؛ إذ يجب أن يخضع كل شخصٍ إلى القانون بما في ذلك المُشرعون ومسؤولو إنفاذ القانون والقضاة، وهنا نجد أن المصطلح يتناقض وحُكْمِ الأقلية التي بموجبها يتجاوز الحُكام القانون.
في مؤشر سيادة القانون الصادر عن مركز العدالة العالمي «WJP»، جاء المغرب خلال عام 2024 في المرتبة 92 من أصل 142 دولة مُحْتَلًا بذلك المرتبة السادسة من بين 9 دولٍ في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو التصنيف الذي به سأختم. لكن قبل أن أغادر سأذكرك عزيزي القارئ بجلسة محاكمة محامينا جميعا النقيب محمد زيان؛ ملفه جاهز للمناقشة والحكم ربما قد يصدر الأربعاء المقبل ليلا؛ ممتنة لإظهار مؤازرتك بالحضور والتعبير عن روح التضامن وقد «أكلت يوم أكل الثور الأبيض».
كما سأخبر قاضي الجلسة أن الأمل في قضاء البلد وفي مؤسسات البلد ضئيل جدا لبشاعة المشاهد، لكن الأمل كبير في قاضٍ بليغ اللسان ذا خلقٍ رفيع: النقيب زيان بَرَاءٌ مما نُسب إليه وذنْبُه أنه صَنع خيرا فيمن لا يستحق، فَكُنْ مُنْصِفا سيدي القاضي أمامك أحد رجالات الدولة الكبار؛ العدل واللاعدل لا يستويان وويْل ثم ويْل ثم ويْل لقاضي الأرض من قاضي السماء.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف





