لبنى الفلاح – صحفية مغربية
المومياء هي جسد أو جثة محفوظة بهدف حمايتها من التحلل بواسطة مادة ما. كان المصريون القدماء يستخدمون الخل والملح للتحنيط وكانوا ينزعون جميع أعضاء الجثة إما بطرق طبيعية أو اصطناعية حافظت على شكلها العام. وتتم عملية الحفظ إما بالتجفيف التام أو التبريد الشديد.
المومياء طبعا لا يمكنها التحدث أو سماع أي شيء، فهي مجرد جسد محفوظ من التحلل، كما أنها لا تمتلك أعضاء حِسِّية أو أنظمة حيوية تعمل، وبالتالي لا يمكنها التفاعل مع المحيط بصورة حية.
ترتبط المومياوات بالأساطير والمُحنطات المصرية، لكن اكتشفت مومياوات عديدة محفوظة تم العثور عليها في كل أنحاء العالم وبكل القارات.
ما يقع للصحفي حميد المهدوي مدير نشر موقع «بديل»، من محاكمة جنائية فمحاكمتين جنحيتين من أجل الصحافة والنشر وأخرى تأديبية وأخرى ذات طابع إداري استعجالي ترتبط بتجريده من صفته الصحفية، حتما يحيل على إرادة رسمية في تحنيط الصحفيين ليصبحوا صما بكما لا يسمعون ولا يتحدثون؛ أجسادا بدون أنظمة حسية تتفاعل مع محيطها. وحتما الأمر لن ينجح فصناعة المومياوات (جمع مومياء) عملية معقدة لم ترتبط يوما بالمغرب سواء بشكل تقليدي أو تاريخي مثلما كان الأمر في مصر القديمة.
شئنا أم أبينا يظل الصحفي حميد المهدوي رقما من الأرقام الصعبة في المشهد الإعلامي المغربي لقاعدته الجماهيرية التي لا تفهم الخطاب الموجه لها سوى بالطريقة التي يُقدمها المهدوي نفسه؛ تركز على سهولة اللغة والبعد عن المصطلحات المعقدة، مع استخدام أمثلة من الواقع اليومي وتجنب الأساليب العلمية أو الأكاديمية الزائدة في خطاب مباشر ومحفز يلمس المشاعر والأحاسيس بدلاً من الأرقام والإحصائيات.
الصحفي المهدوي أمام الجلسة الأخيرة خلال المرحلة الاستئنافية في القضية الجنائية التي وضع شكايتها ضده وزير العدل، بالإضافة إلى قضيتين اثنتين رفع شكايتهما نفس الوزير في حكومة الكفاءات، متغافلا أن الديمقراطية طريق طويل تبنى بالتدافع والنقاش، وأن أمام الدولة ومؤسسات الدولة ومسؤوليها مسطرة حق الرد وهي إجراءات وخطوات قانونية تمنح الفرد أو المؤسسة الحق في الرد على أي نقد أو معلومات خاطئة أو مضللة تم نشرها أو بثها عبر وسائل الإعلام أو أية وسيلة اتصال أخرى، إذا افترضنا أن ما ورد عن الصحفي المهدوي غير صحيح وأن بين يديْ الوزير أدلة قوية تثبت أن المهدوي ارتكب جريمة أو أضر به شخصيًا.
ثم إن وزير العدل من خلال هذه القضايا التي حركها ضد المهدوي، كمسؤول سياسي كان أولى أن ينأى بنفسه عن هكذا حروب مجانية ضد الصحفيين، إذ من المستَمَجِّ أن يتقدم المسؤول السياسي بشكاية ضد صحفي لتأثير الأمر سلبًا أولا على حرية الصحافة وما يرتبط بذلك من تضييقٍ وتخويفٍ من التعبير عن الرأي بكل حرية، ثم ثانيا لتأثيره على سمعة وزير العدل وظهوره كمحاولٍ لإسكات المعارضين، وثالثا لتأثيره على العلاقات العامة وإضعاف الثقة بين المسؤول السياسي والمواطنين، ثم رابعا تأثيره على حقوق الإنسان وانتهاكها. ليس هذا فقط بل إن صورة وسمعة وزير العدل أصبحت في الحضيض بعد كل هذه المحاكمات التي جرَّ إليها الصحفي حميد المهدوي أمام المنتظم الدولي، فهل سيترافع بعدها وهبي باسم المغرب في الأمم المتحدة أو أي مَحْفَلٍ دولي آخر؟ أكيد، لا فسيرته الذاتية كمسؤول سياسي باتت في الوحل.
هل نجح وزير العدل في إسكات الصحفي حميد المهدوي؟ أبدا لا، فهذا الأخير مازال يتحدث ويدافع عن آرائه، وحتى وإن دخل السجن مرة ثانية فسنكون أمام صحفي زُجَّ به في السجن بناء على آرائه وليس شيئا آخر.
ماذا ربح المغرب من هكذا متابعات؟ أكيد لا شيء سوى تقارير حقوقية لمنظمات تشتغل إلى جانب الأمم المتحدة كمنظمة العفو الدولية.. وغيرها.
إن ما يجري ويدور يجعلنا نوقن بأن بناء دولة الحق والقانون لا ينسجم وسياسة تكميم الأفواه وتسليط سيف القضاء على كل متحدث بتلفيق التهم للمخالفين والمنتقدين والمعارضين؛ والذين يعملون على كشف ملفات الفساد ويتتبعون الشأن السياسي والاقتصادي والاجتماعي واختلالاته. وهو ما نعيشه اليوم، حيث شهد ومازال يشهد المشهد الإعلامي المغربي معضلة كبيرة بمتابعة صحفيين شباب قضائيا وتغريم آخرين، بغض النظر عن الملفات الأخرى التي ستظل موشومة على جبين الدولة وخصوصا المتابعات القضائية التي توبع من خلالها صحفيون مستقلون والمرتبطة أساسا بفساد أخلاقي أو قضايا تتعلق بالجنس والاتجار في البشر أو كشف معلومات سِرية تتعلق بتقارير حول فساد بعض المسؤولين.
إن الدولة التي لا ترتكز على صحافة حرة تبقى دولة تنحو منحى الشمولية وتخفي ضعفها ووهن مؤسساتها والهواجس السيئة لبعض مسؤوليها ممن يتخفون وراء سلطِهم المختلفة؛ هؤلاء تجدهم يستعينون بمهامهم ومسؤولياتهم للانتقام ممن نَبَسَ بِبِنْتِ كلمةٍ في حقهم.
كصحفية لا أدافع عن الصحفيين بتنزيههم؛ فأكيد الصحافي إطلاقا ليس منزَّهًا عن الخطإ؛ غير أنني أدافع عن أن محاسبة الصحفي يجب ألا تتم بالقانون الجنائي تماشيا مع التوجه الدولي الرامي إلى إلغاء العقوبات السجنية في قضايا النشر والقطع مع متابعتهم بالقانون الجنائي عِوض قانون الصحافة والنشر، حيث إن المعاهدات والاتفاقيات الدولية تسمو في تراتبيتِها على مجموعة الأنظمة القانونية الوطنية الموجهة للعمل القضائي وأهمها الدستور المغربي.
كما أنه لا يجب أن يكون لدى المسؤول تفكير زجري عقابي تجاه الصحافيين؛ فعندما تتم متابعة الصحافي بالقانون الجنائي عِوض قانون الصحافة والنشر، لا يكون أمام القضاء إلا الحكم على المعني لفائدة المسؤول، لنكون حينئذ أمام مسؤولين سياسيين لا يؤمنون بالديمقراطية ولا بحرية التعبير ولا بالمشاركة، بل أمام مسؤولين يرغبون في صناعة صحفيين مومياوات/ صحفي مومياء.
فإذن، هل تريدون صناعة مومياء من الصحفي حميد المهدوي؟ إذا كان الجواب نعم، ما عليكم سوى اتباع طريقة التحنيط التالية: قدامى المصريين عزيزي القارئ يقومون بتجفيف الجسد أولاً بوضعه في ملح النطرون الجاف (نوع من الأملاح المعدنية) لاستخراج كل ذرة مياه موجودة فيه واستخلاص الدهون وتجفيف الأنسجة تجفيفا كاملا، بعدها يمكنكم القيام بِطِلاء الجثة بمادة الراتنج وهو سائل لسد جميع مسامات البشرة وحتى يكون عازلا للرطوبة وطارِدا للأحياء الدقيقة والحشرات في مختلف الظروف، حتى لو وُضِعت الجثة في الماء أو تُرِكَتْ في العراء. ثم قوموا بعدها بتغليف الجسد بضمادات الكتان المغطاة بالراتنج مرة أخرى، ووضع تمائم وقناع على رأس المومياء وتخزينها في تابوت خشبي ودفنها في مقبرة، ولإضفاء لمسة جمالية ما عليكم سوى طِلاؤها بسائل الذهب.
أخيرا ها نحن أمام الصحفي حميد المهدوي وقد تحول إلى مومياء؟ مهلا عزيزي القارئ ليس بعد، فالعملية لم تنجح لأنه وبكل بساطة ما يزال على قيد الحياة!!! لسانه سيتكلم وعقله سيفكر لا داعي للعملية اتركوا الرجل وشأنه.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف





