ملك ملوك إيران

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

الكاتبة: لبنى الفلاح – إعلامية مغربية

 

 

يبدو أن المعارضين والمنتقدين والجواسيس المتربصين بالجمهورية الإسلامية الإيرانية سواء ببلاد العرب أو العَجَمْ مازالوا يراهنون على سلالة بهلوي لتركيع هذه الأخيرة في حربها الإسرائيلية ضد أمريكا؛ أكيد أن هؤلاء لم يستوعبوا بعد دروس التاريخ جيدا وهم يحملون مرة أخرى شعار: «كلنا إسرائيليون» اصطفافا مع إسرائيل وراعيتها الرسمية أمريكا ضد إيران.

علي رضا بهلوي أو ابن «ديكتاتور إيران» كما يصفه التاريخ هو الابن الأكبر لمحمد رضا بهلوي آخر شاه من سلالة بهلوي التي حكمت إيران لمدة 53 عاماً، وهو مؤسس وزعيم المجلس الوطني الإيراني (وهي جماعة معارضة في المنفى)، ويعدّ من أبرز منتقدي حكومة الجمهورية الإسلامية في إيران، وقد حاول على مدى العقود الأربعة الماضية أن يقدم نفسه كخيار ثالث بين نظام الجمهورية الإسلامية والفوضى أو الانقلابات.

الشاه محمد رضا بهلوي حَكَمَ إيران بين العامين 1941 و1979، وقد لُقب بـ«الشاهنشاه» أو «ملك الملوك» وانتهى حُكمه عقب اندلاع الثورة الإسلامية ليكون بذلك آخر ملوك إيران.

للحديث عن حرب إسرائيل ضد إيران كان لابد من التوقف بُرهة عند شاه إيران هذه الشخصية المثيرة التي حولت علاقة العداء للكيان الصهيوني إلى علاقة صداقة وطيدة دامت لعقود قبل أن تتلاشى بسقوطه من كرسي العرش.

كيف كان حكمه؟

«الشاهنشاه» واجه عهده معارضة واسعة بسبب قمع الحريات السياسية وفساد نظامه واعتماده على الولايات المتحدة؛ كان رجلاً استبدادياً عانى نظامه من الفساد وشعر العديد من الإيرانيين في زمنه بالقهر الاقتصادي والاجتماعي، كما قمع معارضيه بكافة أنواع التعذيب والتجويع داخل السجون والتصفية الجسدية من خلال جهاز الشرطة السياسية «سافاك» الذي أسسه عام 1957 بمساعدة وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية «سي آي إيه» والموساد الإسرائيلية، عدا التوتر الذي عاشه مع علماء الدين بسبب إصلاحاته وميوله الغربية. طبعا كل هذا سيؤدي لا محالَ إلى ارتفاع منسوب المعارضة في سبعينيات القرن الماضي واندلاع الثورة الإسلامية عام 1979 ليتم الإعلان رسميا عن نهاية حكم سلاسة «ملك الملوك».

عقب سقوط نظامه سَيغادر في يناير 1979 إيران بسبب الاضطرابات السياسية والاحتجاجات الشعبية، لصالح روح الله الخميني الذي سيعود من المنفى ويقود الثورة الإسلامية. وبفترة وجيزة على مغادرة الشاه سيستولي الإيرانيون على السفارة الأمريكية في طهران واحتجاز 52 رهينة أمريكية من موظفي السفارة وديبلوماسيون أمريكيون لمدة 444 يوما فيما أُطْلِق عليه بأزمة «احتجاز الرهائن الأمريكية»، وهي عملية كانت تهدف إلى تسليم شاه إيران الذي هرب من طهران إلى الولايات المتحدة الأمريكية وتمكينهم من كافة الأصول والأملاك المودعة باسمه.

وفعلا يروي رُوَاةُ التاريخ بأن هذا الشاه عاش عِيشَة ضَنْكَا قبل أن يُتُوُفِي في مصر عام 1980.

بغض النظر عن حكمه بالدم والنار، فإن «الشاهنشاه» يمثل نقطة مظلمة في العلاقات مع إسرائيل؛ والتي تحولت من عداء علني إلى تحالف قوي، حيث يمثل مبنى السفارة الفلسطينية في طهران اليوم تجسيداً للتغيرات الكبرى التي شهدتها السياسة الخارجية لإيران على مر عقود، والذي كان مقراً للبعثة الديبلوماسية الإسرائيلية في زمنه، قبل أن تتغير سياسة طهران حُيَالَ إسرائيل بشكل كبير بعد ثورة 1979.

وللعبرة وللتاريخ، فإن «الشاهنشاه» تبنى سياسات خارجية وداخلية ظل يميل فيها إلى مواقف الغرب خاصة أمريكا التي كانت من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل، لتصير إيران محطة لنقل عشرات الآلاف من اليهود العراقيين إلى دولة إسرائيل بعد إنشائها، تلاه اعتراف إيران كثاني دولة مسلمة بعد تركيا بإسرائيل في مارس عام 1950، ثم إرسال إيران لمبعوثها إلى تل أبيب.

خلال هذا العهد (عهد «الشاهنشاه») استمرت طهران في علاقات قوية وعلنية تخللتها زيارات لكبار المسؤولين الإسرائيليين إلى إيران في أجواء سرية، ودعم إيران لإسرائيل بالنفط في وقت كانت هذه الأخيرة تساعد إيران في عدة مجالات اقتصادية وتتعاون معها ثقافيا وعسكريا واستخباراتيا، خاصة مع تصاعد شعبية الخطاب القومي العربي للرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي اعتبرته وقتها إيران وإسرائيل عدواً مشتركاً؛ حتى ها هنا كانت العلاقات وثيقة بين إسرائيل وإيران.

اندلعت الثورة الإسلامية عام 1979 التي أوصلت روح الله الخميني وتياره الديني إلى سدة الحكم في طهران وأطاحت بملك ملوك إيران مما كان إيذانا بقطع العلاقات مع إسرائيل مباشرة بعد الثورة، متهمة إياها بالإمبريالية واحتلال الأراضي الفلسطينية. هنا ستبدأ إيران في استقطاب الدعم العربي عبر تبنّي خطاب معادٍ لإسرائيل وبشكل متزايد، وصولاً إلى إعلان النظام الإيراني التزامه العلني بإزالة إسرائيل، في الوقت الذي تعتبر هذه الأخيرة بأن البرنامج النووي الإيراني يشكل تهديدًا وجوديًا وامتلاكُ طهران للسلاح النووي يشكل خطرًا مباشراً على أمنها، وها هو التوتر غير المعلن بين الطرفين يخرج إلى العلن وقد تحول إلى صدام عسكري مباشر بعد عقود من المواجهات غير المباشرة عبر الحلفاء، وها هي الحرب الإيرانية الإسرائيلية تتحول إلى حرب إيرانية إسرائيلية أمريكية ثم إلى حرب تصيب شظاياها جميع دول المنطقة خاصة الشرق الأوسط ودول الخليج؛ حرب من شأنها إعادة تأثيث الخريطة العالمية بناء على منطق القوة النووية فلا مكان للضعيف هنا. وهي حرب من المؤكد أيضا أن إيران ستخرج منها رابحة لعقيدتها في الحرب: صبر وطول نفس، ولا داعي هنا للتذكير بالسنوات الثمانية التي قضتها إيران في حربها المفتوحة بالعراق والسنوات السبعة التي أمضتها في حربها بسوريا. بالإضافة إلى ذلك ووفق العقيدة الإيرانية، فإن طهران تبني ردَّها على نظرية «الهدف مقابل الهدف» و«الهجوم مقابل الهجوم»، وتُفضّل التركيز على عمليات خاطفة وغير متوقعة للجانب الإسرائيلي بدل الكلام.

ضف إلى ذلك، الدعم الكبير الذي تقدمه الصين سيما على المستوى الاستخباراتي وموقفها الإيجابي بمجلس الأمن ومحاولات كسب واستقطاب حلفاءَ جددٍ لصالح إيران في انتظار دعم عسكري لوجستيكي مباشر بمنظومة رادار متطور تنضاف إلى صواريخ باليستية وطائرات مسيرة ومنظومة الدفاع الجوي الصاروخي المتنقل البعيد المدى «باور 373​​» وباقي العدة العسكرية الأخرى الجد المتطورة، رغم ما يقال عن رفض إيران لأي دعم عسكري حتى حدود الساعة. هذا دون أن ننسى الوعود التي قدمتها روسيا بمد يد العون العسكري اللوجستيكي والاستخباراتي، وفي انتظار تفعيل منظومة «إس-400 » المتطورة لتتبع طائرات «إف-35» وحماية الأجواء الإيرانية وتفعيل الاتفاقيات التي تربط البلدين على مستوى مجلس الأمن.

والأكيد من هذا كله أن الحرب الإسرائيلية الأمريكية ضد إيران الدول العربية خاصة المتواجدة بمنطقة الخليج والشرق الأوسط، وهو ما توضَّح جليا بعد استهداف غارات إيرانية مواقع القواعد العسكرية الأمريكية بكل من قطر والعراق ردا على القصف الأمريكي لثلاث مواقع نووية مهمة في إيران؛ ما وضع دول المنطقة برمتها على صفيح ساخن وألحق الضرر بشعوبها سيما الضاحية الجنوبية من العراق حيث تضررت المنازل وتسرب الخوف لسكانها؛ هجوم كهذا لم تَحْسِب له أمريكا حسابا لدول الخليج كما لم تأخذ بعين الاعتبار مصالح هؤلاء الحلفاء الاستراتيجيين سواء الأمنية أو الإنسانية أو البيئية في حال حدوث أي تسريب إشعاعي.

إنه زمن إسرائيل الذي انتهى بانتهاء زمن «ملك الملوك».

يحكي رواة التاريخ بأن «الشاهنشاه» قد توفي في القاهرة في 27 يوليو 1980 بمستشفى القوات المسلحة بالمَعَادِي بعد صراعٍ مع مرض سرطان الغدد اللمفاوية عن عمر ناهز 61 عاما، والتي كان قد لجأ إليها بعد سقوطه من كرسي الحكم. فقبلها حاول السفر إلى أكثر من دولة أوروبية وعربية لكنها رفضت استقباله، فظل يتنقل بين مصر والمغرب والمكسيك وبنما والولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن تنقله الطائرة الخاصة للرئيس المصري السابق «أنوار السادات» من أمريكا إلى مصر حيث توفي.

يُحْكَى أن جثمانه تم تشييعه في جنازة عسكرية حضرها القِلَّة القليلة: الرئيس أنوار السادات وزوجته جيهان السادات وإمبراطورة إيران الشهبانو فرح ديبا وبعض من حاشية ومرافقي الرئيس، انطلقت من قصر عابدين حتى مسجد الرِفَاعِي بالقاهرة حيث دُفن، تاركا وراءه كل تلك السلطة والجاه وقصور الذهب؛ إذ لم يرافقه إلى قبره لا مالٌ ولا بنون ولا زينة من زِينَات الحياة الدنيا، لتبقى بذلك قصة «الشاهنشاه» عِبرة للتاريخ تُروى من جيل إلى جيل وتحكى من جد إلى جد.

عكس مقولة الكاتب الفرنسي اليميني المتطرف «روبرت برازاك» لحظة إعدامه: «التاريخ لا يكتبه سوى المنتصرون» هؤلاء الذين يفرضون رواياتهم لتصبح رسمية ويحذفون ما لا يتناسب معها، جَازَ لنا القول هنا: إن التاريخ لا يكتبه المنتصرون فقط الخاسرون أيضا؛ إذ لا يقتصر على سرد انتصارات الناجحين والقِوى العظمى فقط بل يشمل تجارب وأحداث الخاسرين الذين يساهمون في تشكيل سرديته بطريقتهم الخاصة، فهو ليس مجرد قصة انتصارات بل أيضًا قصة خسائر وصراعات وتجارب لم تحقق النجاح. إنه مزيج من الحِكم والعبر، فيه التجارب والسِيَر، منه نعرف الصواب فنتبناه، ونعرف الخطأ فنتفاداه؛ إنه أعظم معلم للبشرية.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف.


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...