حِصان ميِّت

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

الكاتبة: لبنى الفلاح/ صحفية مغربية

 

 

 

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «لو عثرت بَغلة في طريق العراق، لسألني الله عنها لِمَ لَمْ تصلح لها الطريق يا عمر؟» (كتاب تاريخ الطبري: تاريخ الرسل والملوك، ج: 4/ ص: 202).

ما قرأتَه أعلاه هو أثر رُوِي عن عمر بن الخطاب ثاني الخلفاء الراشدين.

بخصوص صحة هذا الأثر وصحة سنده فهو لفظ مشهور ومتداول بين الناس لكن الفقهاء والمحدثين لم يقفوا عليه بإسنادٍ قَطُّ لا صحيحًا ولا ضعيفًا، وقد روي عنه بلفظ آخر معناه قريب من هذا المعنى، كما رُوي من عدة طرق، لا يخلو إسناد كل واحدِ منها من ضعف، إلا أنها تتقوى بمجموعِ الطرق ويمكنك عزيزي القارئ البحث فيها أو الرجوع لأهل الاختصاص.

عموما وهذا هو الأهم، سواء كان السند صحيحا أو ضعيفا أو حسنا فإن القول يجوز على ما تعيشه البلد اليوم.

في واقعيتيْن متفرقتيْن مؤسفتيْن اعتقلت الطفلة ملاك الطاهري، ابنة مدينة تاهلة 14 عاما، بمعية أسرتها الأب والأم والأخ! نعم الأسرة برمتها في القضية المرتبطة باليوتوبر «هشام جيراندو» (قبل أن تتابع الأم والطفلة في حالة سراح ويتابع الابن والأب في حالة اعتقال)، فيما جرفت مياه الأمطار في واقعة أخرى أشد أسفا طفلة ببركان في بالوعة لمياه الصرف الصحي. وبينما كنت عزيزي القارئ تحتسي حَريرَتَك من المياه والزغاريد كما يقول المغاربة، بعدما اقتصدْتَ في موادها لغلاء سعرها، كان المواطنون هناك في بركان أقصى شرق شمال المملكة، يبحثون بعيون جاحضة وقِوى مُنهكة في مجاري المياه علَّهم يظفرون بالطفلة يسرى حية تُرزق.

إذا بحثت عن مدينة بركان، فإن محرك البحث «غوغل» سيخبرك بأن عاصمة الليمون رائدة في الرقمنة وتحديث إدارتها كأول مدينة ذكية بالمغرب!!

أيضا سيُخبرك محرك البحث عن تنميتها المفقودة، لكنه سيُخبرك في المقابل أن الفريق المحلي نهضة بركان قد تمكن خلال السنوات الأخيرة من الفوز بالكونفدرالية الإفريقية والسوبر الإفريقي وبكأس العرش لأكثر من مرة، طبعا حدث هذا وابنها فوزي لقجع على رأس الجامعة الملكية لكرة القدم، حيث يبدو أن كرة القدم – وهذا لا ينطبق على بركان وحدها بل على البلد برمتها- أهم من الغذاء ومن التعليم ومن الصحة ومن السكن، بل وأهم من الأرواح البشرية في حد ذاتها.

بحسب الأرقام، فإن المغرب رصد من خلال الصندوق الوطني لتنمية الرياضة مبلغ 200 مليار سنتيم (2 مليار درهم)، في إطار مشاريع تحديث وإعادة تطوير وتأهيل البنيات التحتية الرياضية الرئيسية التي تُعد من بين أكبر الأوراش الرياضية، وفق ما أعلنت عنه وزارة التربية الوطنية والتعليم الأولي والرياضة بانطلاق الأشغال المرتبطة بها سنة 2023، في إطار تنظيم المغرب لِكان 2025 ومونديال 2030 مع الجارتين إسبانيا والبرتغال، رغم أن منظمة العفو الدولية «أمنستي» أكدت في مراسلة سابقة للاتحاد الدولي لكرة القدم «فيفا» على ضرورة ضمان وفاء الدول المنظمة بالتزاماتها وأن تمنع انتهاكات حقوق الإنسان فيما يتعلق بحقوق العمل والتمييز والإسكان وحرية التعبير والشرطة والخصوصية. كما عبرت في تقريرها السنوي حول انتهاكات حقوق الإنسان في العالم، عن استنكارها لاستمرار إدانة النشطاء الحقوقيين والصحفيين والمحامين، بسبب النَبْذ ​​السلمي لحريتهم في التعبير، مُعربة عن أسفها لتشريعات البلاد والتي تسير في اتجاه العقاب دائما، منبهة إلى أن المحاكم المغربية أصبحت إشارة على التعصب الشديد ضد حرية التعبير ولا تسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم، واستشهدت بعدد من حالات الاعتقال من أجل الرأي والتعبير. والحق يقال إننا أصبحنا من البلدان المتطورة في الاعتقال فلم يعد أهل الحل والعقد يميِّزون بين صغير وكبير كله إلى السجن؛ ففي سجون البلد والحمد لله ستجد معتقل الرأي ذو الـ82 عاما (النقيب محمد زيان وزير حقوق الإنسان السابق النقيب)، كما ستجد معتقلين في عمر الشباب (المدونان رضوان القسطيط ومحمد البوستاتي، وطلبة تازة، وناصر الزفزافي ورفاقه)، وحتى معتقلين أطفال نعم أطفال (أشرف البداحي ابن عادل البداحي)!!

وعدا الأموال المرصودة بصندوق تنمية البنيات التحتية الرياضية، فمازالت الطرق هي هي أسوأ مما كانت عليه وها هي الأمطار التي عرفتها البلد خلال الـ48 ساعة الأخيرة قد أبانت عن الوجه الحقيقي لبنياتِنَا التحتية؛ للطرق المهترئة ولمجاري الصرف الصحي «المخنوقة». وهنا ربما تبادر إلى ذهنكم اسم مصطفى السملالي، نعم هو ذاك الرجل الفقير المعروف بـ«علال القادوس» والذي تحوَّل بفضل تضحياته خلال شتاء 2015 إلى «بطل قومي» لدى المغاربة، تناقلت أخبارَه الصحف المحلية والدولية واشتعلت صفحات المواقع الاجتماعية تمجيدا لشجاعة هذا الرجل الذي غامر بحياته لإنقاذ أحياء عدة بالرباط العاصمة، والذي بدل أن تكرمه الدولة سنسمع عن دخوله السجن.

كانت أول مكافأة يتلقاها «علال القادوس» بحسب ما تناقلته تقارير آنذاك، طرده من العمل الذي كان يزاوله منذ سبعِ سنوات في حمام شعبيّ، حيث إن مشغله لم يرقه تسليط الأضواء على مستخدمه، وعلى ظروف عيشه وعمله، ليَجد «علال» نفسه بين عشية وضحاها بلا عمل وبدون مأوى، قبل أن يتم الزج به في السجن سنتيْن حبسا نافذا وغرامة مالية قدرها 5000 درهم، لتنتهي قصة «علال القادوس» في السجن.

في حوز البلاد، هناك مواطنون من الدرجة الثانية يُعانون في الخيام بعد أزيد من سنة ونصف على زلزال الحوز المنطقة التي صارت بحاجة ماسة للإعمار؛ فبينما تنام أنت عزيزي القارئ في سرير مريح وليس بالضرورة ناعمًا هناك من يتلحَّف حصيرا وأكياسا بلاستيكية ويتخذ من لحافٍ رثٍّ غطاءً له. هناك في الحوز الصور أبلغ من الكلام حيث إن المعضلة أعمق من التحضير لمباريات كرة القدم؛ فقر مدقع ومعاناة لا تنتهي مع البرد قبل الحرِّ.

هناك في الحوز إذا خيَّرت الناس بين المأكل والمشرب وبين حطب التدفئة سيختارون حتما ودون تردد أعواد الحطب لتدفئة عِظامهم التي نخرها البَرَدْ.

وأنت تتجول بين خيام الحوز ستشعر وأنك في بِقاع غزة وأن حربا مرَّت من هناك، غير أن الأمر لا علاقة له بالحرب هي فقط إرادة البلد في تكريم أبنائها.

بمناسبة القول، أين وصلت عملية الإعمار في غزة؟

عملية الإعمار في غزة التي شهدت حربا ضروسا منذ السابع أكتوبر 2023 ستتم وتنتهي قبل عملية إعمار الحوز، بناء على الخطة التي قدَّمتها مصر بـ53 مليار دولار ووافقت عليها دول أوروبية وأخرى عربية، والممتدة على مدى 5 سنوات، والتي تركز على الإغاثة الطارئة وإعادة الإعمار والتنمية الاقتصادية الطويلة المدى؛ وعموما العملية ستجنب تهجير سكان القطاع وتحقيق رغبة الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب».

أي قيمة للإنسان في الدول غير الديمقراطية؟

علَّمونا في فصول الدراسة أن الديمقراطية أفضل وسيلة سلمية لتبادل السلطة ومشاركة المواطنين في صُنع القرار من خلال الممثلين الذين ينتخبونهم بإرادتهم الحُرَّة عبر الانتخابات النزيهة أو هكذا قيل لنا بالأحرى. غير أنهم لم يخبرونا عن ذلك المستوى المتقدم في تطبيق الديمقراطية للدرجة التي تحترم فيها البلد الحريات وحقوق الإنسان وحقوق المرأة وحقوق الأطفال وحقوق العمال ولِمَا لا حتى حقوق الحيوان.

حسنا، هل سمعت يوما بنظرية الحصان الميت «Dead Horse Theory»؟ هي استعارة ساخرة توضّح كيف أن بعض الناس أو المؤسسات أو حتى الشعوب، أيا كان، تتعامل مع مشكلة واضحة وكأنها غير مفهومة، وبدلًا من الاعتراف بالحقيقة، يتعامَوْن عنها ويتفنَّنُون في تبريرها.

تقول الفكرة ببساطة إذا اكتشفت أنك راكبٌ على حِصان ميِّت، فإن أفضل وأبسط حلٍّ هو أن تنزل عنه وتتركه، لكن الواقع يقول غير ذلك! هناك من يصرّ على اتخاذ إجراءات غريبة بدلًا من مواجهة الحقيقة، مثل شراء سِرج جديد للحصان أو إطعامه بالعلف وكأنه ما زال حيًا أو تغيير الفارس الذي يرْكبه أو عزل الموظف المسؤول عن رعايته واستبداله بآخر أو عقد اجتماعات لمناقشة إجراءات زيادة سرعة الحصان! أو تشكيل لجان وفرق عمل لدراسة وضع الحصان الميِّت وتحليل الموضوع من كل الجوانب وبعد شهور من الدراسة والتقصي ستتوصل اللجان إلى نفس النتيجة الواضحة من البداية: «الحصان ميِّت».

بحسب نظرية «الحصان الميت» فبدل الاعتراف بالحقيقة، يُكابر المسؤولون في حالتنا هاته، ويبررون ويقارنونه بأحصنة ميِّتة أخرى ويقرِّرُون أن المشكلة تكمن في نقص التدريب، ويُوصُون بدورة تدريبية للحصان وطبعًا هذه الدورة تحتاج إلى ميزانية جديدة! وبالنهاية يصل بهم الإنكار إلى إعادة تعريف كلمة «ميِّت» ليقنعوا أنفسهم بأن الحصان لا يزال حيًا!

نعم هي هكذا، فكم من المسؤولين يُفضّلون العيش في حالة إنكار، ويُضَيِّعون وقتهم وجهدهم ومواردهم أو بالأحرى وقت البلد ومجهودات مواردها البشرية ومواردها المالية في محاولات فاشلة، بدلًا من الاعتراف بالمشكلة من البداية ومعالجتها. فهل فهمت الدرس المستفاد، إننا فعلا أمام وضعية «الحصان الميت»!!

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...