التصوف بين الحقيقة والالتباس: جدلية النور والظلمة في المعرفة الروحية..

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* د. عبد الله شنفار

 

 

– مدخل إشكالي:
ما معنى الحقيقة في الفكر الصوفي؟ هل هي إدراك الوجود من منظور مختلف عن العقل المألوف، أم أنها تجربة روحانية تتجاوز التصورات الحسية؟ وهل الحقيقة الصوفية تجربة قابلة للفهم العقلي، أم أنها تستند إلى معايير أخرى، كالإلهام والكشف؟
كيف نفهم مقولة الجنيد: «لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صِدِّيق بأنه زنديق»؟ هل تكرّس هذه المقولة القطيعة مع المعرفة التقليدية وتدخل في إطار تأليه الذات، أم أنها تشير إلى مستوى من الفهم لا يدركه إلا الخاصة من أهل المعرفة؟ وهل التصوف، في جوهره، امتداد للإيمان العميق، أم هو تأويل فلسفي يخرج عن إطار العقيدة؟
– الحقيقة عند المتصوفة: تجلّياتها ومستوياتها:
يتحدث المتصوفة عن الحقيقة باعتبارها درجة من درجات الوعي التي تتجاوز الإدراك الحسي والعقلي، ويستدلّون على ذلك بآيات من القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
* (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ).
* (يَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ).
* (مَن لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُورٍ).
تُفهم هذه الآيات عندهم على أنها إشارات إلى المعرفة اللدنية التي يمنحها الله لخواص عباده، لا عبر طرق العقل والتجربة، بل من خلال إشراق روحي يتجاوز قوانين الفكر العادي. وهذا الفهم يجعلهم يتمسكون بمفاهيم مثل الفناء في الله، التي تعني زوال الإدراك الفردي للذات والاندماج الكلي في الحقيقة الإلهية.
لكن هل هذه التصورات تظل ضمن إطار الإيمان البسيط، أم أنها تنطوي على تحوّل جوهري في مفهوم العلاقة بين العبد والمعبود؟ هنا نصل إلى إشكالية أخرى: إذا كان التصوف قائمًا على إلغاء الذات، فهل هذا يعني إلغاء التمييز بين الله والإنسان؟
التجربة الصوفية بين الروحانية والربانية:
– يمكن التمييز بين مستويين في التصوف:
1. التصوف الأخلاقي الرباني: الذي يقوم على تهذيب النفس والتقرب إلى الله بالعبادة والزهد.
2. التصوف الفلسفي والإشراقي: الذي يصل إلى مرحلة الفناء في الله ورؤية الوجود كأنه انعكاس للحقيقة الإلهية.
في المستوى الأول، يمكن قبول التصوف كطريقة روحية تنتمي إلى تقاليد الزهد والتقوى. لكن في المستوى الثاني، نواجه إشكالات كبرى تتعلق بطبيعة العلاقة بين الخالق والمخلوق، كما يظهر في قول الحلاج:
* أنا من أهوى ومن أهوى أنا، نحن روحان حللنا جسدا.
هذه العبارة أدت إلى اتهام الحلاج بالكفر، لأنها توحي بذوبان الحد الفاصل بين العبد والرب، وهي فكرة تعكس جوهر التصوف الفلسفي القائم على وحدة الوجود.
– مفارقات الجنيد والحلاج: بين السرّ والبوح:
الجنيد يقول: «لا يكون الصديق صديقًا حتى يشهد له في حقه سبعون صديقًا بأنه زنديق.»
أما ابن الفارض فيقول: «إنما قتل الحلاج لأنه باح بسره؛ إذ شرط هذا التوحيد كتمان السر.»
ما هو هذا “السر” الذي لا يجب البوح به؟ ولماذا يصبح الوصول إلى “الحقيقة” عند الصوفية مرادفًا لخطر الاتهام بالزندقة؟ هل السرّ هنا هو معرفة باطنية لا تتحملها العقول العادية، أم أنه خروج عن العقيدة الإسلامية التقليدية؟
– أسئلة جوهرية حول طبيعة التصوف:
* هل التصوف في جوهره امتداد للإيمان العميق، أم هو تأويل فلسفي يخرج عن إطار العقيدة؟
* إلى أي حدّ يمكن اعتبار المفاهيم الصوفية كالفناء والحلول ووحدة الوجود تجليات روحية، أم أنها تأويلات فلسفية؟
* هل يمكن للتصوف أن يكون منهجًا معرفيًا، أم أنه يظل مجرد تجربة ذاتية غير قابلة للتعميم؟
* هل الصوفي عندما يتحدث عن الحقيقة المطلقة يدركها فعلًا، أم أن تجربته هي إسقاط ذاتي على العالم؟
خلاصة: التصوف بين الإشراق والالتباس:
تظل تجربة التصوف مثار جدل دائم بين من يراها مسلكًا للروحانية الحقة، ومن يرى فيها انحرافًا عن العقيدة. إن مقولة الجنيد عن “شهادة الصديقين بالزندقة” تعكس عمق المفارقة التي تحيط بالتصوف، حيث يصبح العارف بالحقيقة شخصًا موضع شك وريبة، وكأن الوصول إلى الحقيقة هو خروج عن المألوف.
يبقى السؤال مفتوحاً: هل الحقيقة الصوفية نورٌ أم ظلمة؟

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...