الإنسان بين التكريم والإفساد في الأرض: قراءة في مسلسل ومسارات صراع الخير والشر..

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عبد الله شنفار

 

 

 

* التوقعات الصادمة للملائكة حين أعلن الله جعل البشر خلائف في الأرض:
عندما أخبر الله الملائكة بأنه سيجعل في الأرض خليفة، جاء تساؤلهم العفوي والمفاجئ: (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ؟) لم يكن هذا التساؤل رفضًا لحكمة الله، بل كان استقراءً لطبيعة الإنسان، الذي قد يحمل في داخله نزعة الخير كما يحمل الاستعداد للشر. وجاء الرد الإلهي بأن منح آدم عليه السلام العلم، فكان ذلك بمثابة التحدي للملأ الأعلى، حيث اختُبر الإنسان في قدرته على التمييز والتعلم.
لكن، منذ اللحظة الأولى، أثبت الإنسان أنه ليس معصومًا من الخطأ، فقد شهد التاريخ أول جريمة قتل عندما أطاعت نفس قابيل هواها فقتل أخاه هابيل: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، بل إنه حتى عجز عن التعامل مع جثة أخيه حتى بعث الله له غرابًا يعلمه كيف يواري سوءته.
* الصراع الأبدي بين الخير والشر:
منذ ذلك الزمان، دخل الإنسان في صراع أبدي بين نزعتي الإصلاح والإفساد في الأرض وبين نزعة الخير الذي ينير طريقه ونزعة الشر الذي يدفعه نحو الظلم والعدوان. إن العقدة الشيطانية المتجذرة في النفس البشرية، والتي تجلت بوضوح في موقف إبليس: {أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ}، كانت شرارة هذا الصراع الذي لن ينتهي طالما وُجد الإنسان على الأرض. فقد يغلب الخير أحيانًا، لكنه سرعان ما يتراجع أمام موجات الطغيان والاستبداد، والعكس صحيح، وفقًا لسيرورة التاريخ وتقلبات الأزمنة.
كان المنتظر من هذا “الخليفة الذي جعله الله في الأرض” أن يكون عامل إصلاح، مستثمرًا وعيه وعلمه في إعمارها، متجنبًا سفك الدماء وإشاعة الفساد. فقد ميزه الله بقدرة عقلية مستقلة، تمكنه من اتخاذ قرارات واعية تعزز دوره كمصلح، لكن التاريخ يروي قصة مختلفة.
* من التكريم إلى التشويه: عندما ينحرف العلم عن غايته:
لقد كان تكريم الإنسان في أساسه تكريمًا لعقله ولقدراته المعرفية: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}، لكن هذا التكريم لم يمنع البعض من استغلال العلم لأغراض هدامة، فتحول الفكر إلى أداة للتدمير بدل البناء.
وراء شعارات الجماعات الإرهابية، مثل داعش والقاعدة وأخواتهما، ووراء الرايات السوداء التي تحمل كلمات مقدسة مثل “لا إله إلا الله” و”الله أكبر”؛ اختبأت أبشع الجرائم وأفظع الانتهاكات، مما جعل الإنسان يشوه ذلك التكريم الإلهي الذي مُنح له، ويستخدم المعرفة وسيلة لنشر الرعب بدل تحقيق العدل والسلام.
* الطغاة عبر التاريخ: دروس في الاستبداد والدموية:
عبر التاريخ، ظهر أشخاص طغوا وتجبروا، فكانوا تجسيدًا لمفهوم “الإفساد في الأرض”، بداية من فرعون وهامان اللذين استخدما السلطة لإذلال الناس: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ}، إلى (نيرون)، الطاغية الذي أحرق روما، لكنه لم يستطع أن يطفئ جذوة المقاومة، فقد مات نيرون، لكن روما لا تزال بعينيها تقاتل.
يا ترى ما الفرق بين العصر الجاهلي والعصر الحديث!؟ يبدو لا فرق على مستوى القِيَّم..! فحرب داحِسْ والعبْراءْ؛ بين قبيلتي عبس وذبيان دامت 40 سنة..! والحروب والغزوات المغولية خلال القرن الثالث عشر.
حب التملك والتوسع على حساب شعوب وأمم أخرى من خلال خلق الهالة والجاذبية الحضارية. يحكى أن (جِنْكِيْزْ خَانْ) إمبراطور المغول؛ عندما حضرته الموت؛ خاطب أبناءه؛ قائلًا: “لقد تركت لكم إمبراطورية عظيمة؛ ولكن التاريخ لم يسعفني للاستيلاء على العالم بأكمله.”
وكذلك (هتلر)، الذي ألقى بألمانيا في أتون حرب دمرت ثلث شعبه، و(ستالين) الذي تسبب في مقتل ملايين البشر بعمليات التطهير القاسية، وموسوليني الذي قاد بلاده إلى الهاوية بتبنيه الفاشية الوحشية.
لكن المعضلة الحقيقية تكمن في أن هؤلاء الطغاة لم يصنعوا أنفسهم بأنفسهم، بل تغذت نزعتهم الاستبدادية من خلال تضخيم الرمز، حيث يصبح القائد أسطورة تعلو على التاريخ والعقل ويتحول التمجيد الأعمى إلى أيديولوجيا تتلاعب بمصائر الشعوب.
* هل يمكن كسر دائرة العنف؟
التاريخ مليء بالأمثلة على أن القوة العنيفة لم تكن يومًا وسيلة ناجحة لتحقيق الإصلاح الحقيقي. فإذا لم يُجْدِ خطاب الدعوة والإقناع، فلن يُجدي العنف والقهر.
إن التحدي الحقيقي أمام الإنسان اليوم ليس في امتلاك القوة المادية، بل في كيفية استخدامها بحكمة. علينا أن نستبدل لغة القوة الغاشمة بلغة الحوار والدبلوماسية، وأن ننتصر لمبدأ البناء لا الهدم، فدورنا الحقيقي في الأرض ليس الفساد وسفك الدماء، بل إعمارها وبناء مستقبل أفضل للبشرية.
* والخلاصة:
يبقى السؤال مفتوحًا: هل سيتعلم الإنسان من دروس التاريخ، أم أنه سيظل يدور في دوامة الصراع بين الخير والشر، متخليًا عن دوره الحقيقي كخليفة في الأرض؟

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...