– د. عبد الله شنفار
* بين المعلومة والسلطة:
لطالما كانت المعلومة سلاحًا فتاكًا في يد من يحسن توظيفها، سواء في السياسة أو الاقتصاد أو حتى في حروب لا تُخاض بالسيوف والرصاص، بل بالكودات والفيروسات الرقمية. فمنذ أن حمل هدهد سليمان عليه السلام خبر مملكة سبأ، مرورًا بتسريبات إدوارد سنودن عبر مكعب روبيك، وصولًا إلى برمجية التجسس الإسرائيلية “بيغاسوس”، كانت المعلومات أداةً حاسمة في توجيه مصائر الدول والأفراد.
لكن، ما طبيعة هذه الحرب الحديثة؟ كيف تتحكم التكنولوجيا في مستقبل الدول؟ وما تداعياتها على الأمن والسيادة؟
* ما هي الحرب السيبرانية؟
الحرب السيبرانية لم تعد خيالًا علميًا، بل أصبحت واقعًا يهدد الأنظمة والمجتمعات. إنها ليست معركة بين جيوش، بل بين شبكات رقمية وأجهزة استخباراتية تسعى إلى سرقة البيانات، التجسس، أو تعطيل البنية التحتية لدولة بأكملها.
فكيف نشأت هذه الحروب؟ وما أسلحتها غير المرئية؟
* من الهدهد إلى بيغاسوس: كيف أصبحت المعلومة سلاحًا؟
في القرآن الكريم، لعب الهدهد دورًا استخباراتيًا بامتياز حين جاء بخبر سبأ إلى النبي سليمان، لكنه لم يُتخذ كحقيقة نهائية، بل خضع للتحقق والتأكد: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (النمل: 27). هذا يعكس أحد مبادئ الاستخبارات الحديثة: التحقق قبل اتخاذ القرار.
اليوم، تحوّلت أساليب نقل المعلومات من التحسّس التقليدي إلى التجسس السيبراني المنظم. كشف إدوارد سنودن عن برامج التجسس الأمريكية باستخدام مجرد “مكعب روبيك”، بينما أظهرت برمجية بيغاسوس كيف يمكن لحكومات اختراق الهواتف الذكية والتجسس على شخصيات سياسية وصحفيين دون علمهم.
فهل أصبح كل فرد اليوم ملفًا مكشوفًا؟ وهل لا تزال هناك خصوصية في العالم الرقمي؟
* الحروب لم تعد كما كانت: الفيروسات بدل القنابل:
لم تعد الحروب التقليدية هي السائدة، بل تغيّرت أدوات الصراع جذريًا. الفيروسات السيبرانية والهجمات الرقمية أصبحت أكثر فتكًا، إذ لم يعد من الضروري قصف المدن أو احتلال الأراضي، بل يكفي اختراق شبكة كهربائية وطنية أو شل الأنظمة المصرفية لخلق الفوضى.
* الاختراقات السيبرانية: سلاح المستقبل:
في عصرنا الحالي، أصبحت البرمجيات الخبيثة تعادل القنابل في خطورتها. يمكن لهجوم رقمي واحد أن يوقف خدمات الاتصالات أو يعطل البنية التحتية الحيوية لدولة بأكملها.
لم تعد الدول بحاجة إلى شن غارات جوية لتدمير اقتصاد خصومها، بل بات اختراق الأنظمة المالية والبنكية كافيًا لإحداث أزمات كبرى. فهل نحن أمام شكل جديد من الردع العسكري؟
* من الجيوش التقليدية إلى الجيوش الإلكترونية:
تمتلك الدول اليوم جيوشًا غير مرئية من القراصنة المحترفين، يتولون مهام القرصنة، التشويش، والتضليل الإعلامي. في المقابل، أصبح الأمن السيبراني أولوية كبرى، حيث يتم تخصيص ميزانيات ضخمة لحماية الأنظمة من الاختراقات.
* الحروب الإدراكية: السيطرة على العقول بدل احتلال الأرض:
لم تعد الحروب تقتصر على السيطرة المادية، بل امتدت إلى التلاعب بالعقول عبر الإعلام والمنصات الرقمية. يمكن توجيه المعلومات والتلاعب بالحقائق للتأثير على الرأي العام، إشعال اضطرابات داخلية، أو حتى خلق واقع سياسي جديد يخدم أجندات معينة دون إطلاق رصاصة واحدة.
فكيف يمكن مواجهة هذه الحروب الخفية؟
* نحو مفهوم جديد للسيادة:
أصبحت الدول تواجه تحديًا وجوديًا: كيف تحافظ على سيادتها في عالم تتحكم فيه الخوارزميات والشبكات الرقمية؟
لم تعد السيادة تقتصر على الأرض، بل باتت تشمل فضاء المعلومات والبيانات، مما يفرض على الحكومات تطوير استراتيجيات دفاعية جديدة لمواكبة هذه التحولات.
* خلاصة: عصر جديد من الصراعات:
نحن اليوم أمام مرحلة مختلفة من الحروب، حيث لم يعد الانتصار يُقاس بعدد القتلى أو الأراضي المحتلة، بل بمدى السيطرة على تدفق المعلومات. أصبحت الفيروسات بديلًا عن القنابل، والاختراقات أشد تدميرًا من الغزو العسكري.
في ظل هذا الواقع، يصبح الأمن السيبراني ليس مجرد خيار، بل ضرورة لحماية الأفراد والدول من تهديدات غير مرئية لكنها بالغة الخطورة.





