إشكالية الأداء المؤسسي: نحو تفكيك الثنائيّة الزائفة بين الفرد والمنظومة
*الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار
* هل المشكلة في الأشخاص… أم في المنظومة؟
تتشكل الإشكاليّة المحوريّة في تقييم أداء المؤسسات حول سؤال جوهري: أين يتموضع الخلل الحقيقي؟ هل يكمن في الأفراد أنفسهم، بوصفهم وحدات منفصلة تحمل سمات الكفاءة أو التقصير؟ أم أن المأزق يتعلق بالمنظومة الشاملة التي تشكل الإطار الحاضن لهؤلاء الأفراد، والمحدِّد الرئيسي لسلوكهم وأدائهم؟
يبدو الواقع المؤسسي، في كثير من الأحيان، أسيرًا لخطأ تشخيصي منهجي، حيث يُختزل فشل المشاريع وتراجع الكفاءة إلى مجرد “قصور فردي”، متجاهلاً البنى الهيكليّة والثقافيّة التي تشكل الحاضنة المنتجة لهذا الأداء.
* المحور الأول: نقد ثقافة إلقاء اللوم على الأفراد
ما الذي يدفع المؤسسات إلى التسرع في تحميل الأفراد مسئوليّة الفشل، بدلاً من تشريح البيئة والمنظومة التي يعملون فيها؟ أليس في هذا التوجه هروبًا من مواجهة إخفاقات هيكليّة أعمق؟
تشير الظواهر المتكررة؛ حيث ينتقل فردٌ وُصمَ بـ”ضعف الكفاءة” من مؤسسة إلى أخرى، ليتحول فجأة إلى نموذج للإبداع والتميز؛ إلى وجود خلل تحليلي جوهري.
إن تحويل الأفراد إلى كبش فداء يمثل إجراءً سطحياً يغري بالبساطة، لكنه يترك جذور المشكلة ممتدة في تربة المنظومة ذاتها.
هنا تبرز إشكالية منهجية: إلى أي مدى يمكن فصل تقييم “القدرات الذاتيّة” للفرد عن “السياق العام المؤسسي” الذي تُقاس فيه هذه القدرات؟
* المحور الثاني: المنظومة كحاضنة للأداء: بين التمكين والتقييد
لا ينبع الأداء البشري من فراغ، بل هو محصلة لتفاعل ديناميكي بين طاقات الفرد وإمكانات المنظومة. فالمنظومة ليست كيانًا محايدًا؛ إنها فاعل نشط في تشكيل الواقع.
منظومة تدار بالثقة وتحتفي بالمبادرة وتكافئ الإبداع، تعمل كحاضنة للطاقات الكامنة.
في المقابل، تنتج المنظومة التي تكرس البيروقراطيّة وتزرع الخوف بيئة طاردة للإبداع، حتى لأكثر الأفراد كفاءةً وأداءً.
هذا يدفعنا إلى تساؤل نقدي حاسم: هل يمكن أن تكون “الكفاءة” سمة مستقرة للفرد، أم أنها متغيرة بتغير الحاضنة التنظيميّة والقياديّة التي ينتمي إليها؟
بمعنى آخر، أليس من التناقض اتهام فرد بعدم الابتكار في بيئة تجرم الخطأ ولا تكافئ المخاطرة الإيجابيّة؟
* المحور الثالث: نحو تفكيك الثنائية وإعادة التشكيل
لا ينبغي أن يكون النقاش حبيس الثنائيّة التقليديّة (الفرد مقابل المنظومة)، بل يجب الانتقال إلى نموذج تفاعلي أكثر تعقيدًا. فالفرد ليس عنصرًا سلبيًا، والمنظومة ليست قالبًا صلبًا.
العلاقة بينهما علاقة تبادلية: الأفراد المتمكنون يمكنهم تطوير المنظومة، والمنظومة المتمكنة تطلق طاقات الأفراد.
وعليه، فإن السؤال الجوهري ليس “من الملام؟” بل “كيف نعيد هندسة العلاقة التكافليّة بين الفرد والمنظومة لخلق دائرة من التعزيز المتبادل؟”
الإصلاح الحقيقي لا يبدأ باستبدال الأفراد في منظومة معطوبة، وهي عملية أشبه بتغيير السائق في سيارة محركها معطل؛ بل بإصلاح هندسة المنظومة ذاتها: ثقافتها، وحوافزها، وأنماط قيادتها وطرق ادارتها وتدبيرها.
* المحور الرابع: أسئلة لتشريح الأزمة
لدفع التفكير إلى آفاق أعمق، لا بد من طرح أسئلة نقديّة:
1. ماذا لو كان “الأداء الضعيف” ليس سبب المشكلة، بل هو مجرد عرض أو حتى رد فعل طبيعي لخلل بنيوي في المنظومة؟
2. إلى أي حد يمكن اعتبار “المقاومة السلبيّة” أو “اللامبالاة” لدى بعض الموظفين شكلاً من أشكال الاحتجاج الصامت على منظومة إداريّة فاشلة؟
3. هل نحن أمام “أزمة كفاءات” أم “أزمة بيئات عمل” تقتل الكفاءات الموجودة أصلاً؟
4. ما هي الآليات الخفيّة (غير المكتوبة) في ثقافة المؤسسة التي تكافئ الامتثال وتقمع الاختلاف، وبالتالي تُفقر رأس المال الفكري على المدى الطويل؟
* خلاصة: نحو نموذج مؤسسي متجدد
خلاصة القول إن تشخيص الخلل المؤسسي يتطلب جرأة نقديّة تتجاوز السطح إلى الجوهر.
إن الرهان في إدارة وتدبير القرن الحادي والعشرين يجب أن ينصب على بناء “منظومات تمكيني” تتحول فيها العلاقة من الرقابة إلى الثقة، ومن تنفيذ الأوامر إلى تفجير الطاقات.
فحين تدرك المؤسسة أن الإنسان ليس “عبئًا إداريًا” يجب مراقبته، بل “طاقة إنتاجيّة” يجب استثمارها، عندها فقط يتحول الأداء من كونه التزامًا وظيفيًا روتينيًا إلى كونه إبداعًا مؤسسيًا مستدامًا.
الإصلاح يبدأ عندما نغير السؤال من: من الذي أخطأ؟ إلى سؤال: أي نظام نحن بصدد صنعه يجعل الخطأ هو الخيار الأسهل؟
* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





