تهويل الإحصاء وتشويه الوعي من خلال لغة الأرقام وخطاب المرض النفسي بالمغرب
* الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار
* حين تتحوّل نسبة الأرقام إلى وصمة وطنيّة
هل يمكن لرقم أن يُلغي هوية أمة؟
كيف يمكن لإحصاء واحد أن يختزل مجتمعًا كاملاً في صورة جماعيّة للخلل والاضطراب النفسي والعقلي؟
في عالم تتسارع فيه تقنيات السيطرة وتُختزل فيه القيّم الإنسانيّة إلى مؤشرات ومعايير قابلة للقياس، يطلّ علينا بعض الفاعلين التكنوقراط أو خبراء السلوك والسياسات العامة، والعموميّة والقطاعيّة؛ بتصريحات شديدة الخطورة، ظاهرها علم، وباطنها نزوع شبه رباني؛ كأن يقال: “نحن نعرف الأفراد أكثر مما يعرفون هم أنفسهم”.
هذه الجملة، التي قد تبدو تحليليّة أو محايدة علميًا، تخفي وراءها مشروعًا إبستمولوجيًا خطيرًا: تحويل الإنسان من كائن حرّ وفاعل إلى موضوع للتحكم والتوجيه، باسم العلم تارة، وباسم “الحماية” تارة أخرى.
في نوفمبر من سنة 2024، أعلن وزير الصحة والحماية الاجتماعيّة المغربي في قبة البرلمان أن حوالي 48.9٪ من المغاربة “عانوا أو سيعانون من اضطراب نفسيّ أو عقليّ في مرحلة من مراحل حياتهم”.
وهو رقمٌ صادم للوهلة الأولى، ويُثير في الذهن سؤالًا مركزيًا: هل نحن أمام تشخيص علمي موضوعي لواقع الصحة النفسية؟ أم أمام بناء رمزيّ مموّه يراد به صياغة وعي جديد بالمجتمع المغربي بوصفه “كيانًا مأزوماً”؟
إن خطورة هذا الرقم لا تكمن في ارتفاعه، بل فيما يحمله من حمولة دلاليّة واجتماعيّة وإيديولوجية؛ فحين نصف نصف الأمة بالاضطراب النفسي والعقلي، فإننا لا نصف المرض بل نصنعه رمزيًّا.
نصنع الخوف والرعب؛ ونأتيكم بالدواء والعلاج؛
* صناعة الهيمنة: هناك نوعان من صناعة الهَيْمنة:
1. صناعة وكتابة الهَيْمنة بالحِبر السري الأسْوَد الغير القابل للمحو؛ من خلال الأفكار والقيَّم المشتركة بين الشعوب والأمم والمجتمعات.
2. وصناعة الهَيْمنة بالحِبْر الأحمر؛ فهي من أكبر مصادر الثروة للرأسمالية المتوحشة؛ التي تقوم على صناعة الخوف..!
ومن أدواته وآلياته:
– صناعة الفيروسات؛ ثم عرض التلقيح في الأسواق.
– صناعة الجوع؛ ثم عرض الطاقة والقمح في الأسواق.
وبالتالي إذا لم تشكل جبهة عقلاء وحُنفاء الحضارة لإنقاذ الإنساني؛ لن يكون هناك حل للأزمة تحت عناوين مُتحيِّزة؛ مُتحيِّزة للكرامة الوجوديّة للإنسان؛ والعيش المشترك؛ والحق في الحياة.
– أولاً: بين الواقعية العلمية والتضخيم الإحصائي
هل يمكن فعلاً اعتبار “نصف الشعب” مريضاً نفسياً؟
النسبة المذكورة: 48.9٪ استندت إلى دراسات وطنيّة أنجزتها مديرية الصحة النفسية والعقلية، لكنها لا تُحيل إلى تشخيص سريري مباشر بل إلى استمارات ذاتية مثل MINI Interview، تُبنى على تجربة المعاناة الذاتيّة لا على تقييم طبي موضوعي.
وهنا يبرز الخلل المفاهيمي: ما هو المقصود بـ«اضطراب نفسي»؟ هل يدخل فيه الأرق العابر، الحزن، الضغط المهني، أو الاكتئاب السريري؟
كلما اتسع المفهوم، تضخّم الرقم. وكلما ضُبّقت المعايير الإكلينيكية، انخفضت النسبة.
ثمّة مفارقة زمنية أيضًا: الصيغة «عانوا أو سيعانون في مرحلة من حياتهم» تفتح الإحصاء على المستقبل والماضي معًا، فيتحوّل الزمن إلى أداة تضخيم رمزي.
بالتالي، الرقم له أساس إجرائي، لكنه هشّ معرفياً: هو انعكاس لمدى شعور الأفراد بالضغط، لا دليل على انهيار نفسي وطني.
– ثانياً: من علم الإحصاء إلى صناعة الانطباع حول القضايا الاقتصادية والماليّة والاجتماعيّة والسياسيّة والبيئيّة
هل ما زال الرقم في دائرة البحث، أم أصبح جزءًا من خطاب الهيمنة الرمزيّة؟
إنّ خطورة هذا الرقم ليست في محتواه الطبي، بل في وظيفته الاجتماعيّة والسياسيّة.
حين تُروَّج أرقام كهذه في الإعلام دون تفكيك منهجي، فإنها تؤسس لوعي مريض بالذات الجماعيّة.
فبدل أن نرى في المرض النفسي حالة إنسانيّة، نبدأ في رؤية المجتمع ذاته كحالة مرضيّة.
هنا تتسلّل فكرة “الشعب المأزوم نفسيًا وعقلياً واجتماعيا ومالياً وإنسانياً”، وهي فكرة تُستخدم أحياناً لتبرير فشل السياسات العموميّة الصحيّة أو لإعادة تشكيل علاقة الدولة بمواطنيها:
فإذا كان نصف المواطنات والمواطنين المغاربة “مضطربين نفسياً وعقلياً”، فهل يمكن مساءلتهم سياسيًا؟
وإذا كان النصف الآخر متأثراً بسلوكهم، فهل نكون أمام مجتمع قابل للإصلاح بكامله أم مجتمع بحاجة إلى “معالجة” جماعيّة؟
بهذا المعنى، يتحوّل الرقم من أداة للمعرفة إلى أداة للضبط الرمزي؛ من علم إلى سياسة.
– ثالثاً: في دلالات الرقم على الجسد الاجتماعي
ماذا يعني أن نصف المجتمع يعاني؟
إن كان النصف الأول مريضاً او على الأقل تم التحقق من إصابته بالمرض، هذا معناه منطقياً أن النصف الثاني مصاب بالعدوى السلوكيّة: من خلال العنف، والإدمان، والتوتر، والانسحاب الاجتماعي. (تماماً كالجسد الواحد الذي يتداعى له باقي الأعضاء بالسهر والحمى.)
هنا تظهر فكرة “الاقتصاد النفسي الجماعي”: حيث تتوزّع المعاناة على شبكة العلاقات الاجتماعيّة كتيار كهربائي خفي، فينتج عنها تدهور في الأداء المهني، واحتقان اجتماعي أسري، وفقدان الثقة في المؤسسات.
لكن الأهم هو أنّ هذه المظاهر لا تعني أن المجتمع مريض، بل أنه يتنفس في بيئة مؤسساتيّة مختنقة لا تتيح له قنوات تفريغ سليمة.
حين تُهمل الصحة النفسية في المدرسة، ويُترك القاضي بلا تكوين في الطب النفسي الشرعي، ويُطلق المريض العقلي إلى الشارع بقرار إداري مزاجي وليس بناءً على تشخيص وعلاج طبي، فالمشكل ليس في المواطن، بل في الدولة التي لم تفهم بعد أن العقل العام يحتاج إلى علاج مؤسساتي لا وعظي.
– رابعاً: من تشخيص الفرد إلى تبرير المنظومة
هل الغرض من الأرقام تشخيص الظاهرة أم تبرير البنية؟
الخطاب الصحي حين ينزاح عن علمه، يتحوّل إلى خطاب تبريري يخفف الضغط عن السلطة وينقله إلى الأفراد.
فالقول إن “نصف المغاربة مرضى نفسيًا” يتيح تبرير مظاهر الفشل الاجتماعي، ومنها: (العنف بنوعيه؛ المادي والرمزي، والبطالة، والفساد…) باعتبارها نتاجًا “للعطب الفردي” لا “للخلل البنيوي”.
إن هذا الخطاب يُعيد ترتيب المسئوليّة بطريقة خطيرة:
* فهو يُخلي سبيل المؤسسات من المسئوليّة.
* يُحمل المواطن نتائج بيئة مختلة ويُجسد الخلل فيه هو في حد ذاته.
* ويُلبس العلم ثوب الأيديولوجيا. وقد لخّصها أحد المفكرين بقوله: “إذا لم تستطع إخفاء الحقيقة، فاغمرها بسيل من الأكاذيب.”
* استنزاف الإدراك وثقة الجمهور؛ من الجانب النفسي، يعتمد هذا الأسلوب على أساس استنزاف طاقة الفهم والتحليل لدى المتلقي: فكثرة الرسائل المتعارضة تُرهق المتلقي وتدفعه نحو العجز المعرفي، وهو ما يُعرف بالقرارات المضنية.
* إستراتيجيّة التشويش الإعلامي؛ وتقوم على أساس بث كميّة كبيرة من الرسائل المتعارضة والمُربكة عبر قنوات مختلفة، بحيث لا يعرف المتلقّي ما يصدّق.
وهنا تبرز ضرورة القراءة النقديّة للرقم كأداة سلطة، لا كنتاج معرفة بريئة.
– خامساً: بين القاضي والمحامي والطبيب: أزمة التكوين أم أزمة التخصص؟
هل فعلاً يفتقد القضاة ورجال القانون إلى تكوين في الطب النفسي الشرعي؟
القول بذلك يعيد إنتاج سوء الفهم ذاته.
القاضي لا يُصدر حكماً طبياً، بل يعتمد على تقرير الطبيب النفسي الشرعي في تقدير الأهلية والمسؤولية.
فإذا اختلّ التمييز بين المريض والمجرم، فالخلل في المنظومة الطبية لا في المنظومة القضائية.
أليس الأجدر إذن مساءلة تكوين الأطباء النفسانيين الذين يضعون التقارير، قبل اتهام القضاة والمحامين؟
ثم أليس غريباً أن يُستغل هذا الادعاء لتبرير فرض اختبارات “بسيكوتقنيّة” في مباريات الوظائف الأمنيّة والساميّة، وكأن كل مواطن مشكوك في توازنه حتى يثبت العكس؟
هكذا تتحوّل الصحة النفسيّة من حق في الرعاية إلى أداة انتقاء وإقصاء اجتماعي؛ ومن علم إنساني إلى تقنية فرز بيروقراطي.
سادساً: في نقد النزعة الإحصائية الموجَّهة
هل نحن أمام بحث علمي أم حملة موجّهة؟
عندما تُقدَّم النسب دون توضيح العينة، أو تُستخدم في سياقات إعلامية مثيرة، يتحوّل العلم إلى تسويق للقلق.
فالأرقام في مجال النفس ليست حيادية؛ إنها تتأثر بالنية، بزاوية النظر، وبمن يمول الدراسة ومن يوظف نتائجها.
في هذا السياق، لا يمكن استبعاد الدوافع التجارية والسياسية الكامنة وراء تضخيم الظاهرة:
من مراكز العلاج الخاصة، إلى برامج التدريب النفسي، إلى توظيف الاختبارات السيكولوجية في التوظيف العمومي.
هكذا يصبح الإحصاء مثل حصان طروادة جديد، يُدخل معايير نفسيّة في مجالات السيادة والإدارة، ويحوّل المواطن من فاعل إلى حالة اختبار.
سابعاً: الحذر من اختزال الإنسان في مقياس
كيف نقيس النفس؟ وهل يمكن أن تُختصر معاناة الإنسان في رقم؟
الظاهرة النفسية تفلت من الضبط العلمي الكامل، لأنها تتداخل مع الثقافة، والدين، والعلاقات الاجتماعية، والخيال.
من هنا، فإن الادعاء بالقياس الدقيق للنفس البشرية هو نوع من الغرور العلمي، لا من المعرفة الحقيقية.
إنّ لغة الأرقام حين تقتحم مجال الروح دون وعي، تتحوّل إلى عنف رمزيّ ضد الإنسان، لأنها تنزع عنه خصوصيته وتحوّله إلى متغيّر إحصائي جامد.
خلاصة: حين يصبح التشخيص نوعاً من الوصم
القول إن “نصف المغاربة مرضى نفسيًا” لا يعكس الواقع بقدر ما يعبّر عن أزمة في الخطاب نفسه — أزمة بين ما يُقصد بالعلم وما يُستعمل به.
فالرقم، حين يُفهم دون نقد، يُصبح وصمة وطنية.
وحين يُفكّك بعقل نقدي، يتحوّل إلى مؤشر على حاجة الدولة إلى إصلاح مؤسساتها الصحية والقانونية لا على حاجة المجتمع إلى تأنيب جماعي.
لقد آن الأوان أن نعيد تعريف العقل المغربي لا كحالة مرضية، بل كقوة تأمل وصمود في وجه التبسيط، وأن نتحرر من سطوة الإحصاء الذي يتسلل إلينا بلبوس علمي ليصوغ وعياً ناقصاً بالذات.
فالمجتمع المغربي ليس “مضطرباً أو مختلاً عقلياً أو غير متزن نفسياً”، بل مُستفَزّ من فرط ما يُحاصره من قراءة سطحيّة لروحه.
* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





