بين خطاب “ثقافة السلام” واستراتيجيات الهيمنة الرمزيّة: قراءة نقدية في البيان الجديد لجبهة البوليساريو
* د. عبد الله شنفار
– زمن البيانات المتعبة: الجُبناء لا يصنعون التاريخ
في اللحظة التي يستعد فيها مجلس الأمن لتجديد ولايـة بعثـة الأمم المتحـدة للاستفتاء في الصحـراء الغربيـة (المينورسو)، أصدرت جبهة البوليساريو بيانًا جديدًا قدّمته إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تحت عنوان “المقترح الموسّع من أجل حلّ سياسي مقبول من الطرفين يضمن تقرير المصير للشعب الصحراوي ويستعيد السلام والاستقرار الإقليميين.”
يتضمن البيان تعبيرات لافتة مثل “تقاسم ثقافة السلام” و“حسن النية” و”إرادة سياسية حقيقية”، وهي مصطلحات تستدعي قراءة لغوية تفكيكية، إذ إنها تحمل ظلالًا دلالية مختلفة عن معناها الأصلي في وثائق الأمم المتحدة.
ففي الخطاب الأممي، تشير ثقافة السلام إلى ممارسات مؤسساتية تعزّز المشاركة المدنيّة والحكامة الشفافة، بينما تُستخدم في بيان البوليساريو بوصفها رمزًا أخلاقيًا تبريريًا لطلب الاعتراف الدولي دون مراجعة ذاتيّة أو مؤسسية.
وهنا يبرز السؤال الأول الذي ينبغي على الباحث طرحه: هل نحن أمام تحول في الخطاب نحو تماهي لغوي مع المرجعية الأممية؟ أم أننا أمام “انزياح مقصود” لاستثمار مفاهيم الأمم المتحدة في إنتاج شرعية رمزية بديلة؟
– أولًا: دلالات التوقيت ومكر الجغرافيا السياسية
يصدر البيان في لحظة تتشابك فيها الجغرافيا بالدبلوماسية.
فمجلس الأمن يناقش مستقبل المينورسو، والمغرب يعزز موقعه الاستراتيجي عبر دينامية الاعترافات الدولية المتزايدة بمغربية الصحراء.
أما الجزائر، فتواصل توظيف ملف البوليساريو كأداة ضغط جيواستراتيجية في مواجهة الرباط، بما يجعل الجبهة في وضعية “الفاعل التابع” أكثر من كونها فاعلًا مستقلًا.
تاريخيًا، إذا قارنا هذا البيان ببيانات سابقة (2007، 2018، 2021)، نلاحظ ثباتًا في البنية الخطابيّة وتبدلًا في النغمة:
فبينما كانت الجبهة في السابق تتحدث بلغة “التحرير والمقاومة”، باتت اليوم تتبنى مفردات “التهدئة والتفاوض”.
لكن هذا التحول لا يبدو نابعًا من مراجعة فكرية داخلية، بل من ضغط دولي متزايد لإبداء “حسن النية” أمام الأمم المتحدة.
السؤال المحوري هنا: هل تمثل هذه المرونة اللغوية مؤشّرًا على تحول استراتيجي في الوعي السياسي للجبهة؟ أم أنها مجرّد تعديل تكتيكي يهدف إلى تحسين الصورة دون تغيير جوهر الموقف؟
– ثانيًا: المرجعيّة القانونيّة كأداة رمزية
يستند البيان إلى قرارات مجلس الأمن (1754/2007 و2756/2024) لتأكيد حق تقرير المصير ورفض الحلول المفروضة.
لكن ما يغيب عن الخطاب هو أن هذه القرارات نفسها تدعو إلى حل سياسي واقعي ومتوافق عليه، وهي الصيغة التي يستند إليها المقترح المغربي للحكم الذاتي منذ 2007، والذي وصفته واشنطن وباريس وبروكسيل مرارًا بأنه “جدي وذي مصداقية وواقعي” (بيانات وزارة الخارجية الأمريكية 2020–2024).
من هنا، يصبح توظيف المرجعية القانونية أداة رمزية أكثر منه التزامًا مؤسسيًا؛ فالجبهة تحاول أن تستبقي المبدأ القانوني (الاستفتاء) في عالم بات يحتكم للبراغماتية السياسية.
ويحق للقارئ أن يتساءل: هل يكفي استدعاء الشرعية الأممية إذا كانت موازين القوى الدولية تتجه نحو الاعتراف بحلول “الواقعية السياسية”؟
– ثالثًا: التحوّل الخطابي: “ثقافة السلام” أم تكتيك لغوي؟
المصطلح الأبرز في البيان هو “تقاسم ثقافة السلام”.
تفكيك هذا التعبير لغويًا يكشف عن انزياح بلاغي دقيق: ففعل “التقاسم” يوحي بالمشاركة المتكافئة، بينما الواقع السياسي يشير إلى علاقة غير متوازنة بين طرف يمتلك القرار (المغرب) وآخر تابع لنظام وصي (الجزائر)؛ مثل الميت بين يدي غاسله.
أما عبارة “حسن النية”، فتتردد في أكثر من موضع من البيان، في استدعاء صريح للمفردات الأمميّة، لكن دون أن تُقرن بخطوات عملية لبناء الثقة، مما يجعلها رمزًا لغويًا بديلاً للفعل الدبلوماسي الحقيقي.
في هذا المستوى، يظهر أن الجبهة تسعى إلى إعادة صياغة صورتها في الوعي الدولي من “حركة تحرر مسلّحة” إلى “فاعل سياسي متحضر”.
غير أن هذا المسعى يصطدم بعقبة جوهريّة: كيف يمكن لجبهة تابعة لنظام عسكري مغلق أن تنتج خطابًا مدنيًا مقنعًا حول السلام؟
التحليل اللغوي يوضح أن هذا الانزياح ليس تحولًا فكريًا بل تجميلًا بلاغيًا يهدف إلى كسب الرضا الأممي، لا إلى تفكيك بنية العنف الرمزي التي تحكم الخطاب منذ التأسيس.
– رابعًا: الرسائل المبطّنة والوجه المزدوج للبيان
البيان يتسم بما يمكن تسميته “الازدواج الاتصالي”: خطاب علني ناعم، ورسائل ضمنية حادة.
فعبارات مثل “إذا توفرت الإرادة السياسية لدى الطرف الآخر” و“الابتعاد عن الحلول الالتفافية”؛ هي اتهامات مغلفة بالدبلوماسية، موجهة إلى المغرب تحديدًا.
لكن هذا النمط من الخطاب لا يُنتج دينامية تفاوضية جديدة، بل يعيد تدوير المواقف السابقة في قالب أكثر تهذيبًا.
في المقابل، يفتقر البيان إلى أي إشارة لتنازلات ملموسة، أو لآليات تنفيذية مقبولة دوليًا، مما يجعله أقرب إلى البيان الأدبي منه إلى الوثيقة السياسية.
وهنا تبرز المفارقة: هل يمكن لخطاب يسعى لتبرئة الذات من الجمود أن يكون هو ذاته أحد أسبابه البنيوية؟
– خامسًا: البعد الإقليمي والدولي: من الشرعية إلى المشروعية
تحاول البوليساريو في بيانها الربط بين تقرير المصير والاستقرار الإقليمي، في محاولة لإقناع مجلس الأمن بأن استمرار النزاع يمثل تهديدًا لمنطقة الساحل والصحراء.
لكن المقاربة الدولية اليوم تغيّرت جذريًا:
1. بالنسبة لواشنطن، النزاع في الصحراء أصبح ملفًا أمنيًا واقتصاديًا أكثر منه حقوقيًا، ضمن استراتيجية احتواء النفوذ الروسي والجزائري في شمال إفريقيا.
2. أما موسكو، فتتعامل مع القضية كمساحة لمناورة تكتيكية في سياق التنافس الجيوسياسي.
3. والاتحاد الإفريقي يرى في استمرار النزاع عائقًا أمام بناء منظومة قارية موحدة.
4. بالنسبة للمغرب قضية الصحراء مسألة وُجود، لا مسألة حدود.
5. بالنسبة للبوليساريو؛ سمفونية متآكلة، شعار أجوف: “لا بديل لا بديل عن حق تقرير المصير.”
6. بالنسبة لنظام الجزائر، موقف انتهازي لضمان منفد على المحيط الأطلسي.
7. أمّا موريتانيا التي حتى الأمس القريب كانت إقليماً تابعاً للمغرب؛ فتبحث عن غلاف أمني خاصة ما تشكله الجماعات الارهابية في الصحراء الكبرى وعلى دول الساحل.
إزاء ذلك، يبدو أن الجبهة تحاول أن تُظهر نفسها كطرف “مسؤول” أمام المجتمع الدولي، لكنها في الواقع تستعير خطاب الاستقرار دون امتلاك أدواته.
فـ“الاستقرار” في المفهوم الدولي مشروط بقدرة الفاعل على ضبط مجاله الجغرافي، وهو ما تفتقر إليه الجبهة.
يبقى السؤال هنا مفتوحًا: هل تستطيع البوليساريو أن تنتقل من “خطاب الشرعيّة التاريخيّة” إلى “خطاب الفاعليّة السياسيّة”، أم أن قدرها البقاء في منطقة رماديّة بين التاريخ والرمز، في علاقة جدليّة بين الشيخ والمريد، أساسها يقوم على مبدأ: لا تعارض، حتى لا تنطرد؟
خلاصة: من رمزيّة البقاء إلى جدليّة التحول
يُظهر البيان الأخير أن البوليساريو تحاول إعادة إنتاج حضورها الدبلوماسي في الأمم المتحدة عبر لغة ملساء تُحاكي أدبيّات السلم الأممي، تماماً كالهر يُحامي مثلاً صولة الأسد؛ لكنها لا تُقدم مشروعًا واقعيًا للتحول.
إنه، في جوهره، خطاب بقاء لا خطاب حلّ.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن توظيف مصطلحات جديدة يشير إلى إدراكٍ ضمني بتبدّل السياق العام الدولي وتآكل خطاب ماركس وتروتسكي والأفكار الشيوعيّة واندحار النموذج الاشتراكي أمام تفوق النموذج الرأسمالي.
ولعل السؤال الأكبر الآن هو: هل يمكن لهذا الخطاب أن يفتح أمام الجبهة نوافذ تعاطف دولي جديدة؟
أم أنه سيبقى مجرد وثيقة تُقرأ في أروقة الأمم المتحدة ثم تُطوى على رفّ الأرشيف؟
في ضوء هذا التحليل، يمكن تصور ثلاثة سيناريوهات مستقبليّة:
1. سيناريو الجمود الممنهج: استمرار الوضع الحالي دون تقدم حقيقي.
2. سيناريو التكيّف الخطابي: مزيد من تبنّي لغة الأمم المتحدة دون تغيير ميداني.
3. سيناريو التحول المشروط: إذا ما قررت الجزائر رفع وصايتها وحضانتها، فقد تُتاح للجبهة فرصة تحول نحو فاعليّة سياسيّة حقيقيّة.
وهكذا، فإن مصير “ثقافة السلام” التي تتحدث عنها الجبهة لن يُقاس بما تقوله في البيانات، بل بما تفعله في الميدان.
ففي النهاية، التاريخ لا يصنعه الجبناء، ولا يرحم الخطابات الجميلة، بل يُكافئ الفعل الذي يصنع التوازن بين المبدأ والواقع.
ماذا يستطيع أن يفعل الميت بين يدي غاسله!؟ وهل يستطيع المريد أن يعارض شيخه قبل أن ينطرد!؟
إن المستقبل، في نهاية المطاف، لا يكتبه من يُجيد سرد المظلوميّة، بل من يمتلك شجاعة وجرأة صناعة الحلّ.
* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





