رواية «لا أتنفس» للمغربية زهور كرام: الواقع الافتراضي وشخوصه في ظل الوباء

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*بدر العوني

 

«أهدِيَ هذا العمل – والمناسبة شرط – إلى ضحايا الوباء اللعين المسمى كورونا تعويضاً رمزيا لثقوب الفقد التي خلفوها في واقع مفعم برائحة الموت، وفي زمن يُنسَى فيه الموتى بعد نعيهم برسالة عابرة جاهزة باردة في الجدران الافتراضية». (الكاتبة)
تأتي رواية «لا أتنفس» بوصفها إكليلا سرديا على قبور ضحايا الوباء، وقد اختارت الكاتبة المغربية زهو كرام عنواناً شاعرياً/مأساوياً دالا، وقراءةً تفاعليةً مع قضايا الواقع؛ تأكِيدا لمقدرة الأدب الاستباقية وغير المباشرة على تفكيك أعطاب المجتمع وحفز فكر وخيال أهل العلوم الإنسانية على الفهم والتفسير والتحليل. صدرت الرواية عن دار فضاءات الأردنية 2021.

الفضاء الرقمي

في شاكلةٍ لا تخلو من مغامرة الكتابة، تركبت الرواية، مما يمكن تسميته «مونتاجاً قصصيا» إذ اختارت الكاتبة أن تجعل روايتها مكونةً من حوالي أربعة عشر منفذاً، لكل منفذ عنوان وحكاية، وكأنها روابط لحكايةٍ تمددت بين احتمال واحتمال، وفي ذلك تأثر بفلسفة الكتابة الرقمية وهندستها التشعبية، متيحة للقارئ ممكنات التركيب وإعادة بناء «البازل» السردي، لذلك لا نستبعد إمكانية تحويل النص إلى عمل رقمي متعدد الوسائط تُسمعُ فيه الصرخة/الصرخات بشكلٍ أقوى وبنبرات الكثير من المقهورين.

مدينة افتراضية

ترسم الكاتبة صورة للفضاء العام للحكي، مؤكدة الحدود الوهمية بين الفنون، وهي تطارد آلام البشر وتؤبد لحظات مآسيهم ما ظهر منها وما بطن. تقول الساردة في جملة غير مُهادنة «يزداد مولود قبل أوانه، وتعثر الشرطة على جثة بمحاذاة النهر» إنها صورة المسوخ والتشوه، تضع القارئ مباشرة أمام عالم روائي قررت صانعته أن تقول كل شيءٍ هنا الآن.. «تنفجر مدينة بكاملها، تقذف السفينة قمامتها وتختفي، قيل إن السفينة المقبلة من هناك، أفرغت قمامتها واختفت». يجد القارئ نفسه وسط مدينة موبوءة بالتشرد والسموم، مدينة منزوعة البركة فُقِدت فيها هبة البصر «كل نساء المدينة أصبن بالعمى» إنه زمن المسوخ، وانهيار القيم وضيق التنفس، كما تعبر الشخصية الروائية في المنفذ الثاني «أنا الآن أختنق، لا أتنفس، وهناك بعد قليل أو ساعةٍ قد أتلاشى في صمتٍ».

يختنق من يختنق ويرحل من يرحل، وتبقى الحكاية زاحفةً تترجرج، وفي زحفها تُفتح الأبواب للأصوات كلها، المسموعة منها والمقهورة، ببساطة؛ لأن الرواية كما قُدر لها كرنفال للأصوات التي لا منبر لها في واقع الحياة، لكن في المقابل فإن الفضاء الرقمي ـ كما تبوح الساردة – يتيح لهذه الأصوات أن تتحدث، وأن تلتقي، بشكل كرنفالي أيضاً، في مدينة افتراضية أبوابها مُتاحة للجميع هي الصفحة الرقمية الاجتماعية «لا أتنفس» هناك يلتقي السكان آتين من طبقات وفئات مختلفة؛ فهذا الدكتور الأكاديمي الجامعي المتخرج من أرقى المعاهد والمُحاضر في مختلف البلدان، الذي يصارع ديانة الركوع الدنيوي الإداري «الرئيس تخلف عن الاجتماع بنصف ساعة، دون اعتذار أو حتى ابتسامة». ركوع وخنوع مقرفين لكنهما صارا عاديين في زمن الاختلال والوصولية «وهو يتبع رئيس المؤسسة من الاجتماع وظلاله الخانعة تتبع ظله، وتطلب رضاه، وتشرب من ماء الانحناء».

وذاك الصياد متخرج من أكاديمية الصبر والانتظار، ومن مفاجآت الصنارة، راميا إياها في صفحة الحاسوب متنقلا بين زرقة الماء الطبيعية وزرقة الصفحة الاصطناعية. وهذه المرأة ـ أم وليد كما عرفت في صفحة التواصل ـ «سيدة قادمة من «يوتيوب»… تعلمت القراءة والكتابة بالحاسوب عوض السبورة» لوحة جعلتها تدخل عالم التأثير من بوابة ««يوتيوب»» لقد هربت من جحيم الأمية، لكنها لم تسلم من جحيم الفضيحة في العالم الرقمي الذي يملك بورصةً مفتوحة على الهاوية، بورصة منفلتة ومليئة بالفخاخ ومتقلبة القيم «أنت الآن جاسوس. وقبل ذلك كنت استفهاماً، وقد تصبحُ ملاكاً.. لا تيأس».

دائرة الاختناق تتسع

يرتسم خيال القارئ بين «حي الظلمة» «محطة الحافلات» «باريس» «الجامعة» و»لا أتنفس» وغير ذلك من الأفضية في جغرافية عجيبة، متابعاً أكبر قدر من الجروح والتشوهات، التي تنز عن مجتمع لا تتوقف فيه دائرة الاختناق، فهنا تقف الساردة بجرأة روائية عند المشكلات الهرمونية، وقضية الميول الجنسية التي باتت مكشوفة في المدن والقرى، ملقية ظلالا وأسئلة على الطب والدين والأخلاق، والشخصية الروائية الشاهدة على هذا الوضع، ألقت صرختها الأخيرة على جدارها الافتراضي وعانقت الموت «أنا لم أختر أنوثتي ما أنا إلا كما أنا الآن، ترجمني الشتائم» وهناك تقف على اختناق آخر بطلته «س ع» بحكايتها النازفة، وهي تعاشر زوجا لا يربطها به إلا سقف إسمنتي، زوج قذر غير مرغوب في أنفاسه «يطلبها وإن كانت غير راغبة، يرغم رغبته على رغبتها المعطلة» وعندما يأتي الليل يصير جوفه برميلا للكحول في طقوس بعيدة عن رومانسية النبيذ الباريسي، كما تصوره السينما مندغما مع صوت مرلي ماتيو، وقريبة من همجية السكر «البهيمي» كما نعاينه في أزقة جغرافيتنا.

لقد شكلت الصفحة منفذاً وأنبوب أوكسجين لكثير ممن نُكبوا في الحياة، وصاروا لا يتنفسون، لكن عدوى الاختناق وشظايا الوباء تخب في كل مكان، لتصل الصفحة عبر أعداء الأوكسجين الذين يتسربون إلى الأفضية كلها، بما فيها الافتراضية التي نزح إليها شخوص الرواية بحثا عن نسمة حياة، فتتحول الصفحة كما الحياة تدريجيا إلى غرفة يطوف في أرجائها الموت، كما تخبرنا الساردة على لسان المنتمين للصفحة «تحولت الصفحة إلى حكايات الغسيل المنشور» وكأن الوباء ـ وباء الاختناق والاكتئاب – قد طور آلياته الهجومية، فصنع أعداء للحياة دخلوا الصفحة/الحياة فصارت «رائحتها كريهة إلى حد العفن».

إن التناوب السردي بين شخوص الرواية والساردة، بمثابة دليل آخر على تعدد متميز في الأصوات، فقارئ الرواية يجد نفسه محاطاً بينابيع صوتية يحتار في تمييز مستوياتها، لكنها، في العمق، تؤكد حرصاً على محاكاة عالم الثورة الرقمية، الذي لا تتوقف فيه التدوينات والتحديثات، جادة كانت أو تافهة، صارخة كانت أو مفكرة ومتأملة حقيقية كانت أو أقنعة؛ فالأقنعة صارت جزءاً من عالم التخفي وراء الصور والأسماء المستعارة «وغيرها كثير ترك وجهه تحت قناع حيوان أو أسطورة أو جن، والبعض ركب وجها من ذكر وأنثى ثم اختفى». ويهدأ مستوى الصوت في الصفحة لتنتقل بؤرة السرد خافتة إلى الخاص موطن الأسرار فتنكشف الأقنعة أكثر، وتستمر الحكاية بهدير أقل «عندما التقينا خلسة في الخاص، وأطفأنا ضوء الحضور» وما بين إشعال ضوء وإطفاء آخر تستمر حيوات واقعية وافتراضية تتابعها الساردة لتفك لغزا وتخفي آخر، فنعلمُ مصائر ونجهل أخرى يعود هذا إلى وطنه ويهجر الآخر، وفي المطار تنتظر الأم رفات كبِدها دون أجل/أمل، ويمنع الوباء اللعين محاضرات ويقطع أشواقا ويؤجل أحلاما. أما الساردة فترمي جمرة الاحتمالات وتمضي.

*باحث مغربي

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...