*الدكتور عبد الله شنفار
كمن دخل غمار منافسات من أجل الفوز؛ ثم اشتكى بعد الفشل أن الفرق والهيئات الأخرى جد متفوقة؛ ولسان حاله يقول: “نحن لم نخسر؛ ولكن هم الذين فازوا علينا..!”
فكيف ستعبر داخل عالم فيه أجندات ومناورات وتحديات!؟
ففي مواجهة تحديات ضخمة، وأنت لا تمتلك الكفاءة العالية لمواجهتها؛ فيها مشاكل غير خافية على أبسط الناس؛ والعادي والبادي؛ بما فيهم الذي لا يبصر؛ حينها تقول بالمؤامرة، والعوائق، والإكراهات، وتعدد الأفكار، والثقافات في المجتمع…
فهل هذه الأشياء كانت حاضرة في الوعي؛ أم حدثت بعد دخول غمار التحدي؟
• تحارب الفقر والبطالة بالتضرع بالدعاء إلى الله؛ مع أنه حسم الموقف بجواب صريح؛ وقال لهم: (قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا!؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ.)
تتميز البنيات الاجتماعية والعائلية في المجتمع التقليدي بالفقر التكنولوجي في الإنتاج ومصادر الثروة وآليات إنتاجها وتوزيعها بشكل عادل بين الأفراد والجماعات والمناطق؛ حيث تسود ثقافة الضرورة، وثقافة الندرة دون أن يكون هناك تضامن مؤسساتي؛ بمعنى أنها تبقى مجرد تكثيف في العلاقات الاجتماعية فقط.
وفي مقاربة ظاهرة الفقر والهشاشة بالمغرب؛ نستحضر مقتطفاً من كتاب: “صمود وسط الإعصار” للمرحوم الأستاذ عبدالله إبراهيم الذي جاء فيه: “لعل أخطر اتهام يمكن أن يوجه ضد المغرب الكبير؛ هو أنه كان دائمًا بلدًا غنيًا وسكانه فقراء.
فلا يمكن أن يكون الفقر فيه حينئذ إلا عرضيًا، لا هيكليًا. وبالتالي، يجب اعتباره ناتجًا على الأخص عن سوء التدبير وسخف المؤسسات العامة والغلو الاقطاعي في الاستغلال؛ لا عن انعدام حقيقي لمادة الرفاه في البلاد، و قحالة جوهرية في مصادر الإنتاج المادي وعناصر التنمية”.
• وتحارب الجهل بدون منهاج؛ مع أنه أكد على منهاج وسلطان العلم والمعرفة: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا؛ لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَان.)
فالتفكير المنهجي هو طريقة تحليل وتقييم لجميع الأجزاء المترابطة في إطار نسق أو نظام معين؛ والتي بدورها تشكل موقفًا حتى تحقيق وعي أكبر بالأحداث والوقائع.
• وتحارب التخلف بفتاوى مشايخ العصر التي لا سلامة فيها فكرًا ولا شرعًا؛ مع أن الله عز وجل قال: يقول: {لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ.}
فالاجتهاد الفقهي يكون في الظنيَّات؛ أمَّا القطعيَّات فهي تحصيل حاصل ليست موضوع اجتهاد.
عندما يكون حل المشاكل ضعيفًا؛ فهو يُشبه إلى حد ما؛ القياس بمسطرة عوجاء؛ تعطيك قراءات قياس خاطئة لنفس الحالة!
لكن الخطير في الأمر؛ هو لما يتشبث بسلامة المسطرة؛ ويبحث عن عشرات الطرق الملتوية؛ ليبرر تلك القراءات الخاطئة.
وتحارب الفساد وسفك الدماء عن طريق خطب المنابر… مع أن التوقعات الصادمة للملائكة كان الرد عليها بأن: (عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ. قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا؛ إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.)
• وتحارب الانقسامية في المجتمع؛ بالرجوع إلى التكفير ومن خلال المذاهب الأربعة. مع أنه “بين المقدس المطلق؛ والبشري المحدود؛ ينبغي التمييز بين النص المقدس وأفهام البشر.
⁃ فالأول وحي محفوظ مطلق.
⁃ والثاني بشري محدود، مرتبط بمنهج النظر وسعة أفق الناظر أو ضيقها والمختلفة بين البشر.
الناظر لتحصيل الفهم من المقدس يسمى مجتهدًا. قد يصيب؛ وقد يخطئ. لكن هو مأجور في الحالين ما استفرغ الجهد.
لو قيل في المسألة عشرة أقوال، كما هو حاصل في الفقه أو فرعيات الاعتقاد؛ فالمصيب واحد، ولكن الصواب والخطأ منه يبقى تراثًا وثروة لنرى الزوايا المختلفة للنظر في المسألة الواحدة.
عدم التمييز بين المقدس المطلق؛ وهذا الجزء الاجتهادي الذي أصبح تراثًا؛ تتناقله الأجيال؛ يعتبر خطأ منهجيًا صرفًا.
عبر التاريخ الطويل اختلافات الناس في الغالب؛ ليست على المقدس المطلق؛ ولكن على جودة الأفهام المتحصلة بالنظر.”
حول هذه الأفهام ومنها ولدت المذاهب وتفرعت من داخلها، وولدت الفرق العقدية وتجادلت وتصارعت.
الخلاصة: لا تسارع لتصور أن مخالفك معترض على المقدس وتوقف وتبين؛ فالغالب الأعم أنه مختلف مع فهم ما وهو في ذلك كغيره ممن اختلفوا عبر العصور وانتجوا لنا التراث.” الدكتور جاسم سلطان.
• وتحارب الزواج والإنجاب بالأسامي؛ فمن خلال وسائل تحديد وتنظيم النسل في المجتمع التقليدي المغربي؛ ومن خلال سوسيولوجيا الأسماء والمعتقد والمُتخيَّل والتمثلات الشعبية؛ نجد أن الأسر المغربية حتى وقت قريب؛ مع كثرة إنجاب الأطفال وارتفاع نسبة الخصوبة؛ حيث يصل إلى أزيد من 7 إلى 13 مولودًا لدى الزوجين. وفي غياب وسائل تحديد النسل والإنجاب؛ في ذلك العهد؛ يلجأ المغاربة في المجتمع التقليدي المغربي إلى معتقدات في تحديد النسل؛ يظنون أنها كفيلة بالحد من مواليد؛ الذكور أو الإناث؛ أو هما معًا؛ وذلك من خلال تسمية المواليد الجدد.
فنجد مثلًا:
• إطلاق اسم: (أمْ الرجال)؛ أو تسمية: (خَيْتْ لْخُوتْ) لتحديد ووقف نسل مواليد الذكور.
• وإطلاق اسم:(يَزَّانَه) و(الزايْدَه) على المولودة الأنثى للحد من نسل الإناث داخل الأسرة.
• كما نجد تسمية: (حَدْهُمْ) (لَخْوَيْدَمْ) لمنع وتوقيف نسل الذكور والإناث معًا.
واختيار الاسم من طرف أعضاء الأسرة؛ له طقوس خاصة ويخضع أحيانًا للقرعة؛ وقد يتسبب في حدوث خصامات وجفاء بين أفراد الأسرة. وتشمل الوالدين والجد والجدة وباقي أفراد الأسرة وحتى الحشم والخدم والأتباع يستشارون في اختيار الاسم؛ حتى يكون فأل خير وبركة؛ وقد يمتد إلى الزاوية والضريح؛ تبركًا بالولي الصالح فلان الفلاني؛ كونه المسبب والسبب -بعد الله عز وجل- في رزق الأسرة بالمولود أو المولودة الجديدة بعد معاناة مع الإنجاب.
لذلك نجد أسماء: بوشعيب؛ تبركًا بمولاي بوشعيب الدكالي. وعبدالقادر؛ تبركاً بالمولى عبدالقادر الجيلاني دفين بغداد. وادريس تبركاً بالمولى ادريس… وغيره من الأسماء والأسامي في السُّمُوّ والعُلُوّ والرفعةُ مثل: عبدالله.
والأسماء لها معاني نفسية مرتبطة بحالة الأسرة؛ وندرج بعضًا منها ودلالاتها وأبعادها عند الأسر المغربية:
⁃ كْنَيْتَه والكُنْت: القوي الشديد.
⁃ امبارك وامبيريكه وامباركة؛ تعني تبركاً بالمولودة الجديدة بعد عناء البحث عن مولودة تكون أنثى.
⁃ صفيه: مصطفاة من بين باقي الأطفال ولها مكانة خاصة.
⁃ الوَزْنَةُ: المرأةُ القصيرةُ العاقلة.
⁃ الفضيل والفضيلة: صدف مولدها يوم فضيلة ثلاث أيام أو يوم قبل العيد.
⁃ محجوبه: ولدت بغشاء المشيمة.
⁃ الغالي والغاليه: رزقت بها الأسرة بعد معاناة البحث عن طفلة.
⁃ الكبير ولكبيره: غالبًا تطلق على المولودة الأولى عند الأسرة.
⁃ الضاوي والضاوْيه: أضاءت الأسرة والعائلة بازديادها بعد عناء البحث عن مولود كيفما كان؛ ذكرًا أو أنثى.
⁃ مسعود ومسعوده: المباركة والمسعودة؛ تعني الخير والسعد الذي حل بالأسرة معها.
⁃ الخنثى: وتنقسم إلى نوعين: مُشكِل وغير مُشكِل:
• فالخنثى غير المشكل: من يتبين فيه علامات الذكورة أو الأنوثة، فيعلم أنه رجل، أو امرأة. وحكمه في إرثه وسائر أحكامه حكم ما ظهرت علاماته فيه.
• أما الخنثى المشكل: فهو من لا يتبين فيه علامات الذكورة من الأنوثة، ولا يعلم أنه رجل أو امرأة، أو تعارضت فيه العلامات.
⁃ العَمْشَه: طفلة جميلة؛ ولجمال عينيها؛ تكون دائمًا معمشة.
⁃ عْگِيدَه: أو العقيدة؛ واسطة العقد؛ هي التي تزداد وسط ذكرين.
⁃ الكامله: هي التي أكملت التسعة أشهر أو يزيد عن ذلك بقليل؛ بعدما كان سابق إخوانها وأخواتها لا يتجاوزون السبعة أشهر؛ يعني يزدادون غير كاملين.
⁃ جمعة وبوجمعة: مولدهم صادف يوم الجمعة.
⁃ خلفية وخلفة: المولود الذي تركه الأب المتوفي فى بطن أمه.
• (…) وهناك معاني ودلالات أخرى.
“ففي عالم الأفكار الميتة والمميتة؛ نجد:
• الأفكار الميتة؛
وهي أفكار وجدت في لحظة تاريخية، وانتهت مدة صلاحيتها ويعاد تداولها وتدويرها، وكأنها حاضرة. ومثالها كثير من صراعات الفرق في التاريخ الإسلامي وحوله، وتصرف الأوقات في شرحها والحرب معها، وهي طاحونة أوهام.
• أمَّا الأفكار المميتة؛
فهي أفكار تقود إلى سوء أنماط التفكير أو سوء تصور العالم وعلاقاته أو سوء فهم الدين. وهي ما يقود لكوارث في الأرواح والأموال والأخلاق..
الجهل في حد ذاته ليس مشكلة؛ لأن الجاهل يطلب العلم. أمَّا الجهل المركب؛ فصاحبة لا يعلم بجهله؛ بل يظن أنه أعقل الخَلْق وأعلمهم. فإذا اجتمع الجهل المركب، وسوء الخلق حل الخراب.
مع الجهل المركب تأتي قضية ( وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.)؛ وتختفي فرص الحوار والتفاهم.
والأفكار الميتة والمميتة مع الجهل المركب؛ هي أصعب معادلة أمام إقلاع أية أمة.” د. جاسم سلطان.
• الخلاصة:
مع الجهل المركب؛ تأتي قضية (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ.) وتختفي فرص الحوار والتفاهم.”
مع الأسف قضايانا كلها لحظية!
ويعرف أي عاقل؛ وحتى الذي لا يبصر؛ كيف تبدأ وكيف تستثار وكيف تتفاعل وكيف تنتهي!
أحداث لحظية، يليها انفجار العواطف وحملات تسويقية وخلق هالة إعلامية حولها؛ مع تبادل الكثير من السب والشتم والاتهامات المتبادلة؛ ثم لا شيء يلي ذلك من بعد..
وهكذا دواليك في انتظار حدث آخر جديد. في غياب خلق الهالة الحضارية حول أهم قضايانا المجتمعية.
سيكلوجيا بائع الوهم؛ هي تجارة عقود وعد ببيع الوهم؛ تجارة سهلة ومربحة جدًا!
فهي تتطلب قليلًا من الرصد الداخلي لدرجة الغباء والقدرة على الفعل ورِدَّة الفعل؛ في صفوف المجتمع المحلي؛ وأحيانًا حتى المجتمع الدولي؛ ممزوجة بشوية من التفاهة والكثير من التكرار في الكذب وبعض الدَّهاء في التحريف والتزييف والتمرير والحذف والزيادة والنقصان في حقائق الجغرافيا والتاريخ. والإسراف في خلق الهالة والتهويل في التغني بالأمجاد وتاريخ البطولات والنصر في الأحلام والأوهام لدى بائعي الوهم.
أمة تنتج أفكارًا ميتة ومميتة؛ معناه إكرام الميت التعجيل بدفنه.
______
* المفكر الاستراتيجي والراصد الاجتماعي والمحلل السياسي والاقتصادي المغربي





