نيجيريا … انتخابات رئاسية بديمقراطية عِرقية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

محمد طيفوري

 

 

نجحت نيجيريا، يوم 25 من الشهر الماضي (فبراير/ شباط)، في تنظيم سابع محطة انتخابية منذ قيام الجمهورية الرابعة، عام 1999، لانتخاب رئيس جديد للبلاد خلفاً للرئيس المنتهية ولايته محمد بخاري، الذي أمضى ثماني سنوات، المسموح بها دستورياً، في الحكم، كما جرى انتخاب أعضاء الجمعية الوطنية بمجلسيها: الشيوخ (109 أعضاء)، والنواب (360 عضواً)، في أضخم انتخاباتٍ في القارّة الأفريقية تشهد مشاركة 87 مليون ناخب من أصل 93 مليون ناخب مسجّل في اللوائح الانتخابية، باعتبار أنّ ستة ملايين نيجيري لم يسحبوا بطاقاتهم الانتخابية، ما يعني عدم قدرتهم على التصويت.

تحظى هذه الانتخابات بمتابعةٍ واهتمام بالغين، إقليمياً وقارّياً ودولياً، فعلاوة على المعطى الديمغرافي (216 مليون نسمة)، يجرى هذا الاقتراع في منطقة قوامها الاضطراب والتوتر على الجبهتين الداخلية والخارجية؛ فالبلاد غارقةٌ في دوامة العنف والتطرّف المتنامي في أكثر من ولاية. وزاد تردّي الأوضاع الاقتصادية جرّاء جائحة كورونا والحرب الأوكرانية الطين بلة، إذ دخل 33% من السكان تحت خط الفقر (ما يعادل 70 مليوناً). وشهدت المنطقة، في السنوات الأخيرة، انحساراً حادّاً للديمقراطية بالتدخّل المتزايد للجيش في السياسة في عدة دول في غرب أفريقيا (بوركينافاسو، مالي، غينيا).

وتزيد طبيعة اللعبة الانتخابية في نيجيريا من هذا الاهتمام، فالبلاد تعرف، منذ تأسيس الجمهورية الرابعة، واحدةً من أعقد العمليات الانتخابية في القارّة السمراء، خصوصاً أنّ مؤشّرات ترجح إمكانية الإخلال بالحسابات الدقيقة التي تحكُم المعادلة السياسية هناك، بدءاً من التنافسية القوية (18 مرشّحاً)، بين أربعة أحزاب كبرى قوية، بعد التحاق مرشّحي حزبي العمّال والشعب النيجيري بقائمة الأسماء المرشّحة للفوز، عكس الانتخابات السابقة، حيث كان الصراع بين حزبين فقط، وانتهاءً بإمعان مرشّحين للرئاسة في خرق ناعم لبعض القواعد السياسية العرفية التي تؤطّر العملية السياسية برمتها.

قد تكون شخصية المرشّح وسيرته والانتماء للحزب والبرنامج السياسي عناصر مؤثرة في الانتخابات، لكنّ تأثيرها يبقى أقلّ درجة من عوامل رئيسية، تتمثّل في الدين والعرق والانتماء الجغرافي، ذات الأهمية القصوى في المشهد السياسي في نيجيريا. فإلى جانب الدستور المكتوب، تخضع البلاد لقواعد، أو بعبارة أدقّ لاتفاقيات شفوية غير مدوّنة، تكرّس تداولاً سلمياً على السلطة بمعايير أخرى غير الكفاءة التدبيرية والجدارة السياسية وامتلاك الحلول العملية.

للدين نصيب أيضاً في العملية السياسية في نيجيريا، خصوصاً أنّ البلاد تعرف تعدّدية دينية قطباها الرئيسيان: الإسلام الذي يمثل الغالبية في الشمال، والمسيحية التي تنتشر في جنوب البلاد

يقضي العُرف السياسي، الجاري العمل به، بأن تخضع السلطة الرئاسية لمبدأ التناوب كلّ ثماني سنوات بين الأجزاء الشمالية والجنوبية، بذلك يكون التداول على السلطة استنادا لمحدّد جغرافي (إقليمي). هكذا، إذاً، يصبح المعطى المناطقي عنصراً جوهرياً في العملية الديمقراطية، فكلّ منطقةٍ تطالب بالتمثيل في الحكم، بتولّي رئيسٍ يتحدر منها السلطة، فقد كان الصراع على أشدّه، في هذه المعركة، بين أبناء منطقتي الجنوب الشرقي، ممن لم يُسند إليهم الحكم بعد، والشمال الشرقي الذي أنجب أول رئيس وزراء في البلاد، وهذا كله من دون أي اعتبار لما تفرزه صناديق الاقتراع. وبلغت الملاءمة درجة أخذ مناضلي الأحزاب هذا المُعطى، بمعية المحدّد العرقي، بعين الاعتبار عند اختيار مرشّح الحزب للرئاسيات.

وللدين نصيب أيضاً في العملية السياسية بنيجيريا، خصوصاً أنّ البلاد تعرف تعدّدية دينية قطباها الرئيسيان: الإسلام الذي يمثل الغالبية في الشمال، والمسيحية التي تنتشر في جنوب البلاد، فالصيغة تقتضي، بموجب التوافقات التي رافقت ولادة الجمهورية الرابعة، ألا يشترك رئيس الدولة ونائب الرئيس في الديانة نفسها. وإن عمد مرشّح الحزب الحاكم (مؤتمر جميع التقدميين)، بولا أحمد تينوبو، إلى الإخلال بهذه القاعدة العرفية، عند اختياره كاشيم شيتيما، وهو مسلم أيضاً، لمنصب نائب الرئيس، في تجاوزٍ واضحٍ للتوافقات السياسية في البلاد.

يؤثّر التنوّع الإثني، على غرار التعدّدية الدينية، في المشهد السياسي النيجيري، فحظوظ المنافسين الأربعة: أبو بكر أتيكو (76 عاما)، وبولا أحمد تينوبو (70 عاما)، ورابيو موسى كوانكواسو (67 عاما)، وبيتر غريغوري أوبي (61 عاما)، لا تُعزى إلى انتماءاتهم الحزبية التي يظلّ تأثيرها ضعيفاً، وما تنقّل مرشّح الحزب الديمقراطي الشعبي (المعارض)، أبو بكر أتيكو، بين عدد من الأحزاب سوى دليل على ثانوية الانتماء الحزبي، بقدر ما تكون استناداً إلى أصولهم العرقية، فهؤلاء المرشّحون يتحدرون من أكبر الإثنيات في البلد: الفولاني (29%)، واليوروبا (21%)، والإيبو (18%).

نيجيريا مثالٌ حيٌّ عن الأعطاب التي تعيق الديمقراطية في القارّة السمراء

تدفع التعدّدية الحزبية التي تشهدها هذه المحطّة الانتخابية أربعة أحزاب متنافسة بدل الثنائي التقليدي (الديمقراطي الشعبي/ مؤتمر التقّدميين)، نحو إجراء دورة ثانية حاسمة للانتخابات، بدل الإنهاء المبكّر من الدور الأول، على غرار ما حدث في جل الانتخابات السابقة، في مؤشّر من شأنه أن يضفي بعداً آخر على أكبر ديمقراطية في القارّة السمراء، نجحت في التكيف مع تعقيدات الخريطة العرقية والدينية، التي تظل أقوى المؤثّرات في صياغة قواعد النظام السياسي في البلد وتحديدها.

الانتقال من دورة أولى حاسمة إلى دورتين ربما مؤشّر إلى أن نيجيريا بصدد تصفية تركة القواعد العرفية الموروثة عن الجمهورية الرابعة، ويبقى الدليل الأكبر على ذلك أن الكلمة الفصل في هذا النزال الانتخابي للشباب، فحوالى 60% من السكان دون سن 25 عاماً. بدلالة أخرى، أكثر من 64 مليون ناخب كانوا أطفالاً صغاراً، أو ربما لم يولدوا بعد، لحظة توافقات زمن التسعينيات. بذلك، يكون الرهان على المعطى الديمغرافي سبيلاً إلى القطع مع ديمقراطية شكلية، بسجلٍ حافلٍ (أربع جمهوريات) بلا جوهر حقيقي.

نيجيريا مثالٌ حيٌّ عن الأعطاب التي تعيق الديمقراطية في القارّة السمراء، فالتمسّك بشكليات اللعبة بعيداً عن روح الفكرة يبقى خاضعاً لمعايير أخرى تنعكس سلباً على عملية الإصلاح والتغيير، فليس من تنافس الأحزاب والمرشّحين بحثاً عن حلول لمشكلات أكبر دولةٍ نفطيةٍ في أفريقيا، وسبل العودة كقوة إقليمية في غرب أفريقيا بعد سنوات من الانعزال خلال حكم الرئيس بخاري، وخطط لمواجهة تيارات العنف والتطرّف والانفصال التي تمزّق عدّة مناطق … وغير ذلك، ما يساهم في نهضة البلاد، والدفع بها كي تصبح تنّين القارّة السمراء.

 

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...