هل أصبحت الشرعية الدينية للدولة المغربية هدفا خارجيا؟

إيطاليا تلغراف

 

 

 

*بلال التليدي

 

قبل أيام، انطلقت حملة في المغرب، تستهدف إعادة النظر في نظام الإرث ضمن مدونة الأسرة، وتطالب بالمساواة بين الرجل والمرأة، مضيفة عنصرا جديدا في مطالباتها (حذف الإرث بالتعصيب) بحجة أن الذين يدخلون إلى الميراث بالتعصيب من أقرباء الميت الذكور، يتسببون في إلحاق ضرر بالورثة ويأخذون نصيبا معتبرا مع أنهم ليسوا جزءا من بنية الأسرة.

المثير في هذه الحملة، هو رفع مذكرة مفصلة موقعة من عدد من الشخصيات السياسية والمدنية، تتجاوز تغيير بعض مقتضيات نظام الإرث، وتطرح تعديلات جوهرية تهم إباحة الزواج من «الأجانب» والسماح لهم بالميراث، والمقاسمة في الثروة بين الرجل والمرأة عند الطلاق (الكد والسعاية) فضلا عن مقتضيات أخرى تهم الحضانة والنفقة وطلاق الضرر وغيرها من المطالب.

عمليا، لم تتوقف في المغرب عملية المطالبة بتعديل مدونة الأسرة، وقد زادت وتيرتها، بعد عشر سنوات عن تطبيق مدونة الأسرة، لكن مضمونها، لم يكن بهذا الشمول الوراد في هذه المذكرة، كما أن حزب الاستقلال ـ حزب الزعيم علال الفاسي -كان دائما ما يختار خط الاجتهاد المقاصدي المبني على ضرورة التمييز بين ما يمكن الاجتهاد فيه مما يأخذ حكم القطعية مما لا ينبغي الاجتهاد فيه مثل الإرث، ولم يحدث أن شارك في أي دينامية تدعو إلى تغيير مقتضيات في الشريعة.
الجديد في هذه المذكرة، هو ورود أسماء محسوبة على حزب الاستقلال، مثل الوزيرين الأسبقين ياسمينة بادو وإدريس بنهيمة.

صحيح أن هناك من داخل حزب الاستقلال من يشكك في «استقلالية» هذين المسؤولين السياسيين، ويورد ملابسات انتمائهما للحزب، وأنهما ألبسا بسرعة كبيرة لباس هذا الحزب رغبة في استوزارهما، فياسمينة بادو، ابنة الرجل الاستقلالي (عبد الرحمان بادو) لم تكن يوما منتمية للحزب، حتى برز اسمها في عهد الأمين العام عباس الفاسي كمرشحة في دائرة أنفا (2007) وقد أثار تنزيلها في هذه الدائرة جدلا شديدا، أما إدريس بنهيمة، الذي تقلد والده منصب وزير الداخلية في عهد الحسن الثاني، فهو الآخر انتسب إلى حزب الاستقلال في سياق شبيه لسياق ياسمينة بادو.

لا يهمنا كثيرا هذه التفاصيل، لكنها تشير إلى حدود التماس التي يقف عليها موقف الحزب، وأن ورود هاتين الشخصيتين ضمن موقعي المذكرة، يعني أشياء أخرى، غير دخول حزب الاستقلال إلى صفوف المطالبين بتغيير نظام الإرث في المدونة، وربما تعني من بين ما تعني، عدم بقاء أي جبهة محافظة تدعم استناد المدونة سوى إلى الشريعة سوى الدولة ذات الشرعية الدينية، وحزب العدالة والتنمية ذي الخلفية الإسلامية.

نتوقف في هذه الديناميات عند أمرين اثنين، يتعلق أولهما بالتوقيت، الذي يتزامن مع إعلان وزارة العدل عن عزمها القيام بتعديلات للمدونة تصيرها مدونة حداثية، وثانيهما يتعلق بالمضمون، أي التحول الذي حصل في وتيرة المطالبات، من مجرد المطالبة بالمساواة في الإرث، إلى تقديم مطالبات، تنتهي في الجوهر إلى القطع مع مصدرية الشريعة في إنتاج مدونة الأسرة، وتبني مرجعية تتواءم مع منظومة حقوق الإنسان الدولية.

في قضية التوقيت، يجمل بنا أن نتحدث عن سياقين: السياق الوطني، المحكوم بارتباك مواقف وزير العدل عبد اللطيف وهبي، الذي تردد بين التصريح بالرغبة في إخراج مدونة «حداثية» وبين التصريح بأن مدونة الأسرة شأن ديني، تتطلب رأي أهل الاختصاص. ثم السياق الدولي، الذي حدث فيه متغير مهم، يتعلق بتداعيات التطبيع، وما يعنيه ذلك من تنوع الضغوط، ودخول المكون الإسرائيلي إلى جانب الضغوط الأمريكية والأوروبية على الموضوع، لاسيما وأن العلاقات المغربية الإسرائيلية في هذه اللحظة تشوبها بعض التوتر، بسبب سلوكات الحكومة اليمينية المتطرفة تجاه القضية الفلسطينية. فوزارة الخارجية المغربية، أصدرت بلاغين متتاليين في استنكار الجرائم الصهيونية، وثمة غضب إسرائيلي من «التكلؤ» المغربي في موضوع السفارة الإسرائيلية بالرباط، ولا يبعد أن تكون أجندة تغيير المدونة، جزءا مهما من الأوراق التي يمكن أن تدخلها إسرائيل ضمن مروحتها التفاوضية عبر تحريك أو استثمار جزء من الواجهة المدنية، من خلال طرح شرعية الدولة المغربية كجزء في صراع اللعبة.

بعض السياسيين المحافظين، لم يترددوا في التحذير من هذه الدعوات، وأن وتيرتها بلغت مستويات تجاوزت تعديل نصوص جزئية، بل أضحت تمس شرعية الدولة الدينية، إذ تشكل مدونة الأسرة، وكذا منظومة القانون الجنائي، الذي يعطي سندا قويا للشرعية الدينية للدولة، وحالما يتم نسف هذا الأساس، فإن الدولة المغربية تفتقد سندها الديني، ويبقى نظام إمارة المؤمنين مشدودا بأسس رمزية، غير ذات قوة قانونية.

في تحولات الموضوع، تبدو المطالبات أكثر جرأة، من أي وقت مضى، فالمطالبة بإزالة الإرث بالتعصيب، يعني نسف نظام الإرث برمته، إذ ماذا يتبقى من الإرث لو تم التسوية بين الذكور والإناث (الأولاد) وبين الزوج والزوجة، وبين الأب والأم، والجد والجدة، والإخوة والأخوات، وماذا يتبقى منه، إذا تم إلغاء الإرث بالتعصيب، وماذا يتبقى من أسباب الإرث وموانعه، إن تم القبول بتوريث من توجد فيه موانع الإرث.

على أن الأمر لم يتوقف عند نسف نظام الإرث، بل تعداه إلى المطالبة بجعل زواج الرجل من الكتابية مثيلا لزواج المرأة من الكتابي أو من غير المؤمن أصلا، بل إن المطالبة ذهبت أبعد من ذلك، فطرحت فكرة النفقة، فطرحت فكرة المساواة في النفقة بما ينهي استقلال الرجل بها، والشأن نفسه في الحضانة وغيرها.

البعض يرى أن هذه المطالبات، تؤشر على سلامة المجتمع وحيوية النقاش العمومي فيه، وأن الأمر يتطلب حوارا شاملا ومفتوحا، على قاعدة الاجتهاد بما يخدم مصالح المجتمع، والحال، أن هذا هو ما كان منذ نهاية الثمانينيات، وكان الأمر دائما يحسم بآلية النظر الاجتهادي، الذي يناط أمره إلى علماء الأمة، ويؤطر بما قاله الملك محمد السادس ذات خطاب: بصفتي أمير المؤمنين لا يمكن أن أحل حراما أو أحرم حراما» وكانت المطالبات دائما، ما تبحث عن سند في الاجتهادات التراثية حتى ولو كانت مرجوحة، لكن، يبدو الأمر اليوم مختلفا، فالأمر تجاوز هذه العتبة، وأشرت تحولات الموضوع وكذا التوقيت، فضلا عن خلفيات إدراج اسمين من حزب الاستقلال ضمن مذكرة المطالبات، إلى أن الموضوع كبير، وأن شرعية الدولة الدينية، أضحت هدفا مباشرا لديناميات خارجية، إذ ظهرت نوايا عزل الدولة، وجعلها في ركن ضيق إلى جانب الإسلاميين حتى يتم اختبار هويتها.

في الواقع، ثمة صعوبة في إثبات العلاقة بين المذكرة، وبين الأجندة الأجنبية وخاصة منها الإسرائيلية، لكن في المقابل، أيضا، ثم صعوبة في تفسير التواطؤ الذي حصل بين مكونات الموقعين على المذكرة، خاصة وأن الاسمين المنسوبين لحزب الاستقلال لم يعرف لهما في السابق أي قوة اقتراحية في النقاشات العمومية في المواضيع العلاقة البدين.

*كاتب وباحث مغربي

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...