تعدد الولاءات في السودان على حساب الولاء القومي والوطني

إيطاليا تلغراف

 

 

 

* الدكتور عبدالله شنفار

 

 

يحتاج السودان إلى مشروع وطني كبير يكرس الشعور القومي يتجلى في جبهة حُنَفَاء الحضارة؛ ليس بالمعنى الإيماني عند الْحَوَارِيّين؛ بل حُنَفَاء الحضارة المعاصرين الذين يجيبون عن إشكالات الإنسان السوداني؛ وليس مشروع طائفة أو قبيلة أو حزب أو حركة أو مؤسسة عسكرية أو طريقة صوفية أو أقلية إثنية… فالأمر أكبر منهم بكثير.
في السودان هناك ما يسمى ب: تعدد “الولاءات” في الدولة؛ والذي يضر بالحياة السياسية داخل البلد. وهذا التعدد في الولاء؛ يشمل الحزب والحركة والقبيلة والطريقة الصوفية والإثنيات والعسكر… وغيرها. فالديمقراطيات في الدولة الحديثة تقوم على المواطنة؛ ومعناه: “الولاء” القومي // الوطني للدولة. وهذه الولاءات الضيقة والمتعارضة؛ تتمظهر في السمات العامة للشعوب والمجتمعات. فالولاء للحزب؛ يتنافى مع الولاء القومي والوطني. والولاء للقبيلة؛ يتعارض مع الولاء للدولة. والولاء لإثنية معينة؛ يتناقض مع الولاء للدولة.

وهذا معناه؛ تفضيل وتقديم مصلحة ضيقة؛ على حساب مصلحة الدولة. ففي ظل هذا التعدد والتنوع؛ لا يسعنا إلا أن نكون تحت ذمة الدولة؛ وليس في ذمة أحد. وهنا نحتاج إلى منهج قومي لتقوية الذاكرة الوطنية الجمعية؛ والوجدان القومي؛ وفي الإبداع لإعادة بناء الشخصية السودانية.
في السودان يوجد تنضيد اجتماعي وسياسي متنافر؛ يبلغ حجمه حجم ما يعادل نسبة المساحة المحتلة من طرف إسرائيل من أرض فلسطين..! وفيه: (الطوائف الصوفية؛ والأحزاب السياسية؛ والحركات الدينية؛ والقبائل والعشائر؛ والأقليات الاثنية؛ والحاضنة العسكرية.)

الديمقراطية كإحدى المطالب العامة، على الرغم من أنها كمفهوم ونظرية أصبحت تحمل أعراض علة زوالها بداخلها؛ نتيجة تزاحم القيم؛ والتحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والتكنولوجية وغيرها؛ تحيل بشكل بسيط إلى بنية اختلاف، ومصالح متناقضة لعدة طبقات وشرائح اجتماعية، في إطار تنضيد اجتماعي منسجم أو متنافر أو متعايش، والذي يضم طبقات العمال، الفلاحين، التجار، المهنيين، الموظفين، المستثمرين، المثقفين…؛ فئات اجتماعية عديدة ومتنوعة وذات مصالح متناقضة، تستطيع تنظيم نفسها بشكل ديمقراطي ومستقل عن أي تدخل خارجي.
تنضيد اجتماعي قبلي متنافر؛ يحتاج إلى شخص عاقل يتم الاحتكام والرجوع إليه؛ وضابط للنسق الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي.

لو افترضنا أن الحوار والانسجام تقوده أغلبية وأقلية، فالمفروض أن الحوار والتسويات والمساومات تأخذ طريقها حتى حدود لا يقبل فيها الطرف المعارض الحد الأدنى أو الأقصى من هذه التسويات والمساومات؛ آنذاك تقع القطيعة، فتفرض الأغلبية توجهاتها؛ مما يؤدي حتمًا إلى تهميش الأقلية المعارضة، حفاظًا على ما اعتبرته الأغلبية مصالح عليا أو رأسمالًا رمزيًا أو حدًا أقصى لا يمكن تجاوزه.
وفي تحليل الخطاب والحوار بين مجموع الفاعلين بالسودان، فإنه دائمًا ينصب في اتجاه الأقلية بالانتقاد وردود الفعل، أي نحو اتجاه واحد، لكن أبدًا لم يوجه نحو نفس الأعضاء من نفس الأغلبية. وهذا ما يطلق عليه غياب عملية التقاطع في الحوار والتسويات وعملية التواصل بين القوى السياسية والاجتماعية المؤثرة في السياسات العامة.

ففي جميع الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ تستهدف ضمان ثلاث عناصر رئيسية وأساسية كبرى؛ وهي:

1. ضمان وجود الدولة والإنسان.
2. ضمان استمرار الدولة؛ أي ضمان استمرارية وغياب كل مسببات زعزعة الحكم والاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي؛ بما في ذلك الانقلابات العسكرية؛ والعمليات الارهابية المسلحة.
3. ضمان تنمية وبناء وعمران وتحضر؛ وتعني ضمان تطور وازدهار في جميع الميادين والمجالات التنموية.
إن عدو المجتمعات الرأسمالية يبقى هو التناحر إلى ما لا نهاية، أو سيادة العنف الاجتماعي والسياسي، وهذا ما لا تسمح به هذه المجتمعات، بحيث تلجأ إلى عدم تهميش رأي الأقلية وتذويب ردود أفعالها؛ من خلال الحوار وخلق التسويات السياسية بين الأغلبية والأقلية ومحاولة تجاوز الصورة النمطية المزيفة للسياسة الرأسمالية التي تستبعد الطبقات الغير قادرة على اللحاق بمراكز صنع القرار.
فظاهرة “الفِتنة” في المجتمعات العربية الإسلامية؛ تدعو إلى طرح السؤال: من يحكم؟ ولكن لم يطرح السؤال: كيف يحكم؟ وما هو نموذج النظام السياسي الملائم؟ وما هي طبيعة النظام السياسي الذي يتم فيه تداول السلطة بين مختلف المكونات الرئيسية في بلد ما؟ وكيف ندير حياتنا السياسية؟ وكيف ندبر شؤوننا السياسية؟

يقول الباحث الدكتور غسان عثمان: إنه لم يحصل يومًا أن قام الجيش السوداني بانقلاب عسكري من تلقاء نفسه أبدًا في السودان. ففي السودان كل الأحزاب لها امتدادات وخلايا نائمة وشبكة علاقات، وحاضنة داخل الجيش؛ وفي كل مرة يقع صراع بين الحزب الحاكم والمعارضة؛ يجتمع أعضاء اللجنة التنفيذية للحزب المعني؛ أو الحركة المعنية؛ ويتخذون قرارًا بالاجماع؛ ويستدعي الحزب الحاكم عناصر الجيش من أجل القيام بانقلاب أبيض واستلام السلطة.
وبالتالي؛ يرى أنه لم يسبق أبدًا للجيش السوداني أن قام باعتقال أي معارض من حزب أو حركة معينة. وحتى اعتقال المرحوم الدكتور حسن الترابي؛ كان مجرد مناورة سياسية..!
ويذهب الدكتور عثمان غسان إلى إنه: “في السودان يقال: “أنا إلى السجن حبيسًا. وأنت إلى القصر رئيسًا حتى حين.”
فحالة الصراع في بعض الدول؛ يُحِيل إلى استنتاج عام؛ كيف بحثت تلك الشعوب عن “دولة” ولم تبحث عن نموذج نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي؛ لتحقيق التعايش بين مكوناتها.
وهذا حالُ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ التي من المفروض أن تَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَى عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُ بِاللَّه واليوم الآخر.
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ تنام على الدمار والفقر المرض والجهل والقتل والافيون والمخدرات؛ في أفغانستان!
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ تُصْبح وتفطر على كارثة انفجار عمل إرهابي في الصومال وسوريا والعراق؛ وعملية انتحارية في تونس؛ وفي 16 ماي بالدار البيضاء بالمغرب!
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ تتغذى على أزمة سياسية في ليبيا ولبنان واليمن؛ ومحاولة قلب النظام في الأردن وموريتانيا؛ بطرق غير دستورية وغير شرعية ومشروعة.
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ تُمْسي وتتعشى على مجزرة قصف يَشنه الطيران الحربي الاسرائيلي على الأطفال والنساء والشيوخ والمباني والمنشآت الفنية والبنيات التحتية والفوقية في قطاع غزة!
خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ نشاهد فيها الحرائق والنيران تلتهم البشر والطير والشجر والحجر؛ يحكمها عسكري يرفض تقديم المساعدة من أجل إخمادها!
نفس الناس من خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ؛ الذين يقرؤون القرآن، ويحفظون الأحاديث؛ ويصلون ويزكون ويتصدقون ويصومون؛ ويحجون إلى البيت؛ هم أنفسهم الذين يمارسون القتل والسلب والنهب والاعتداء والنفاق والكذب؛ ويدخلون في دوامة صراعات لا تنتهي؛ حيث يستمر الوَجَع دائمًا وأبدًا في حال خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ..!
فأين يكمن الخلل في حال خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ!؟ هل قدرنا أن نعيش مع الكوارث كل يوم وساعة!؟
فحالة الصراع في بعض الدول؛ يُحِيل إلى استنتاج عام؛ يتجلى في فهم كيف بحثت تلك الشعوب عن “دولة” ولم تبحث عن “نموذج نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي” لتحقيق التعايش بين مكونات المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي.

* المفكر والكاتب المغربي

إيطاليا تلغراف

 


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...