الإمام البخاري رحمه الله من شرطي اللقاء والمعاصرة إلى حسم النقاش من خلال اكتشاف الممرات والفراغات الزمانية في الحديث الشريف

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

* الدكتور عبدالله شنفار

 

 

 

أصبحنا نحتاج إلى مشروع جبهة حُنَفَاء الحضارة من أجل التصدي. ليس بالمعنى الإيماني عند “الْحَوَارِيّين”؛ الذين حين الملمات والشدائد؛ كانت تلك الزمرة المؤمنة تدافع وتناصر وترافع عن نبيها وتذود عنه بالغالي والنفيس. وقد سمي هؤلاء النفر ب “الحواريون”؛ بل جبهة حُنَفَاء الحضارة المعاصرين، الذين يجيبون على إشكالات الإنسانية، ومواجهة التفاهة؛ وهو ليس مشروع مشايخ العصر الذين ينهلون من الكتب ذات الورق الأوراق الصفراء؛ الذين لا سلامة في نجواهم لا شرعًا ولا فكرًا ولا فقهاً؛ أو مشروع طائفة أو قبيلة من المتطفلين والملتحقين؛ أو أصحاب المستدركات والمتأخرين؛ أو حتى فكر حَرَسُ القديم من طراز (كاربون-C14) الذين يزعمون أنهم وحدهم من يمتلك الحقيقة المطلقة! والآخرون تتوفر لديهم نسخة رديئة فقط من الحقائق…. فالأمر أكبر منهم بكثير؛ على حد تعبير المفكر المغربي الكبير؛ فضيلة الدكتور ميمون نكاز.

أكبر فكرة جهنمية خلقت في تاريخ الإنسانية؛ هي وجود مجموعات تدعي كذبًا وزورًا وبهتانًا؛ أن عندها الطبعة الأصلية للحقيقة ولأسرار مفاتيح الكون؛ وهي جماعات مسكونة بفكر المؤامرة. وتحت تكرار حكاية هذه مؤامرة وذلك تآمر الآخرين؛ ربما تولد لديها إحساسًا ووجد عندها اعتقادًا؛ راسخًا أن القارئ والمستمع والمتبع والمهتم؛ لا يعلم شيئًا..! أو أن هناك الجديد الذي ربما لا يعلمه الناس..!
فحَرَسُ الوثوقية؛ الذين يحاولون إثبات الإيمان بلغة الأرقام في القران الكريم؛ يدعون أنهم وحدهم من يستفرد بتملك النسخة الأصلية للدَّين! وأن خطتهم تطابق خطة الإله والكوْن؛ وأن الآخرين لديهم النسخة المزيفة فقط عن الدِّين! وحتى إذا ما حدث ووصلت هذه النسخة الأصلية صدفة بين أيدي هؤلاء المنافسين أو المعادين لهم؛ سوف يسيؤون استعمالها، على حد اعتقادهم! وكأنهم كانوا يجلسون منها مقاعد للسمع؛ فاسترقوا السمع من الملأ الأعلى؛ وعرفوا وخطفوا الخطفة حول كل ما يجري هناك في اللوح المحفوظ مما (كَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا) في مسلسل ومسارات حياة الناس، والصيرورة التاريخية للشعوب.

أما حَرَسُ المعبد؛ فهؤلاء يحاربون بشكل متطرف كل أشكال التحديث ومتشبعون بالوثوقية المفرطة.
في حين برامج حَرَسُ التقليد والحتميات؛ الذين يحاربون كل تحديث وعصرنة؛ وهم متشبعون؛ بالفكر الماركسي التروتسكي الاشتراكي الشيوعي؛ الذي يقوم على ميكانيكا الحتمية التاريخية.
وعلى النقيض من ذلك؛ نجد المتشبعون بالفكر المادي الرأسمالي المتوحش.
ويتجاذب كل هؤلاء؛ حَرَسُ الظل.

أصبحنا أمام ثلاثة سيناريوهات تتجاذب كل من حَرَس القديم؛ وحَرَس المعبد وحَرَس التحديث؛ وهي:
1. إما قبول المجازفة!
2. أو نهج منهج التحديث!
3. أو جعل القطيعة مع الماضي!
هناك عدة أبحاث حول الدين كفكرة ونص وفلسفة حياة؛ وحالة التَّديُّن كتشكيل للفهم لدى الإنسان. وقد تناولت كل الشوائب التي علقت بالدين النقي الخالص؛ منذ ذاك اليوم الذي اسْتَدَارَ فيه الزَّمَانَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ؛ أو يوم حجة الوداع التي تضمنت الخطوط العريضة للمشروع الإسلامي.
ومن ضمنها المجهود الذي قام الإمام البخاري والإمام مسلم رحمهما الله؛ في رحلتهما مع الحديث الشريف؛ والذي توج بالصحيحين.
وفي عصرنا الحالي؛ نجد مجهودات المرحوم محمد العمراني حنشي في إخضاع الحديث للخوارزميات؛ وهو تطبيق على الحاسوب؛ من خلال توصله إلى اكتشاف الممرات الزمانية في الحديث الشريف؛ عبر رحلته البحثية حول الحديث الشريف.
وبعمله هذا؛ ولو كلف البعض نفسه الاطلاع عليه؛ لتفادينا الكثير من النقاشات الغير المفيدة والتي لا تجدي في شيء.

فضيلة الدكتور محمد خمسي المفكر الاستراتيجي الكبير والراصد الاجتماعي؛ من جانبه تناول في محاضرة قيمة ألقاها بفضاء الأطر بفاس؛ كيف أن المرحوم الدكتور محمد عمراني حنشي؛ استطاع أن يكتشف الممرات الزمانية في تراثنا للحسم في طبقات الرجال من الرواة في مجال الحديث النبوي الشريف من عاصر من فعلًا. من خلال إدخال كل ما وصلنا من أحاديث وأخبار؛ فاستطاع أن يحسم في الفراغات الزمانية لتحديد الحديث الصحيح الذي وصلنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ دون غيره من خلال معالجة الحاسوب للنصوص بكل دقة واحتمال نسبي لهامش الخطأ.
ويرى أن ذلك الرجل رحمه الله؛ قد حسم في كثير قضايا الحديث؛ التي لم يستطع أن يحسم فيها علماء وفقهاء الحديث. ويرى أنه لو تم الأخذ بأعمال هذا الرجل؛ لانهارت الكثير من الأنساق.
ومعروف أن الأحداث والوقائع؛ تخضع للزيادة والنقصان والحجب والتمرير والتدليس؛ وهي نهر من الوساخة والقذارة الذي تغذيه مئات الجداول من الحقد والكراهية وآلاف القطرات من الغِل والضغينة؛ التي من يراها عند المصب وقد أصبحت جد ملوثة؛ ربما قد ينسى أو يتناسى دور تلك القطرات العذبة والجداول التي تقف وراءها والمغذية لها؛ والتي تغترف منها عند المنبع.
المرحوم الدكتور محمد عمراني حنشي في تناوله لإشكالية تسمية كتب الحديث بالصحاح بعد الإمام البخاري رحمه الله؛ ينطلق من القرآن الكريم الذي قطع على أي كان أن يزيد فيه شيء؛ أو يحذف أو يزيح منه شيئًا. (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.)

لكن الحديث الشريف لم يوصد؛ وبقي مفتوحًا في وجه كل من أراد أن يضيف فيه قولًا. وقد افترض أنه لو جاءك رجلًا؛ ولنفرض أنه رجل سفسطائي؛ وقال قولًا؛ ونسبه لنفسه؛ وقال هو من عنده. فهو مجرد قول عابر. وهو يقول كلامًا في إطار حرية التعبير؛ وأنا اقول كلامًا من عندك. ولكن؛ إذا بدأ كلامه بقول: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم»؛ فقد ألزمك! ولن تجد أمامه سوى تردد وراءه اللازمة: (صلى الله عليه وسلم) حتى لا تتهم بالبخل. وهنا وجد الوضَّاعون مدخلاً لينفثوا ويدخلوا مفترياتهم؛ الشيء الذي لم يستطيعوا فعله وصنعه مع القرآن الكريم. فانبرى المحدثون إلى سد هذه الثغرة وبلغ من كفاحهم وتظافر جهدهم في محاربة هذه الفئة؛ أن توج الحقل العلمي بكتاب (صحيح البخاري). حيث جمع أخباره من حوالي 600 ألف طريق؛ أو انتقى أخباره من حوالي 50 ألف خبر؛ وجعل لها شرطين في الرواة: وهي المعاصرة واللقاء. ولو أنه أخل بهذه الشروط أحيانًا دون معرفة الخلل من أين؛ هل منه أو من تلاميذته. وفي الوقت الذي كان ينتظر لمَّا بلغ الحديث ذروته؛ أن يأتي المتأخرون ويجعلونه أكثر صلابة في وجه كل من يجرؤ أن يضيف في الحديث شيئًا؛ جرت الرياح بما لا تشتهيه السفن؛ حيث يرى الدكتور محمد عمراني حنشي أن أصحاب المستدركات والمتأخرون ومعاصري البخاري؛ والإمام مسلم والإمام الترمذي؛ والإمام ابن خزيمة والإمام ابن حبان. فتلميذه الإمام مسلم خرج عن قاعدة الشيخ والمريد التي تقوم على مقولة: «المريد كالميت بين يدي غاسله؛ لا تعارض فتنتطرد» فَتَّرَ بعض شروط شيخه؛ أَيْ سَكَنَ وَلاَنَ بَعْدَ حِدَّةٍ؛ واكتفى بالمعاصرة دون الرؤية. وبهذا يكون قد أدخل احتمالاً في رواية الحديث. وهذا يسمى تَفْتِيراً وتَخْفِيفًا من هِمَّةِ الرَّجُلِ؛ فبدأوا في فك غزل الحديث؛ فأصبحنا أمام صحيحين: صحيح البخاري وصحيح مسلم؛ وما هو صحيح بشرط مسلم؛ هو ضعيف بشرط البخاري. فأصبح لدينا صحة دون صحة؛ إلى أن ولجت ونفدت كل الأخبار التي لفظها البخاري بشرطه الأول؛ رجعت إلى الأسانيد؛ وكأن الإمام البخاري رحمه الله؛ لم يفعل أو يقم شيئ.
لَقَدْ خُلِقَ الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ. وتاريخ الأمم يخبرنا عن مِحن ما حدث لرجال عظماء؛ وما حل بعلماء فلاسفة ومفكرين؛ ورجال دين؛ من القتل والتنكيل والتعذيب والاتهام بالجنون والسجن… تاريخ المِحن؛ هو تاريخ طويل ومليء بجرعات كبيرة من الأحقاد أكثر من الأمجاد!

يكفي أن تجرب تختار عَلمًا أو مفكرًا أو عالمًا من أعلام الأمة الإسلامية؛ سواء في العصر القديم أو العصر الحديث؛ وأكتب أمامه (مِحْنة فلان….) على أي محرك من محركات البحث على الشبكة المعلوماتية؛ وستكتشف ظاهرة الاغتيالات المادية والمعنوية ومختلف صور التعذيب النفسي، واستعداء المتجبرين والمفسدين في الأرض والعوام والسلطة؛ بسبب خلافات؛ ظاهرها علمي وباطنها أمراض نفسية؛ ومن هؤلاء ستجد: مِحْنَة الإمام مالك بن أنس؛ ومِحْنَة الإمام الشافعي؛ ومِحْنَة الإمام أحمد بن حنبل؛ ومِحْنَة الإمام البخاري؛ ومِحْنَة المعتمد ابن عباد؛ (…) وغيرهم كُثر.

فالاغتيال المادي والمعنوي؛ طال أعلام الفكر والسياسة وقادة الفتوحات؛ ولايزال مستمرًا في عصرنا الحالي؛ من خلال تشويه الأفكار وعمليات الإساءة والإشاعة والافتراء؛ التي لم يسلم منها أحد.
ومن الطرائف؛ في مجالس الكبار؛ كنَّا نجلس في الصغر بأدب واستقامة؛ نصغي وننصت ونتابع الحوارات والجدالات والمناقشات التي تصاحب جلسات تناول الشاي الصحراوي (لمْشحَّرْ). في إحدى المرات؛ كان الحديث حول تحضير كأس شاي لذيذ جدًا؛ يقال عنه «مْعدَّلْ» دايزو لكلام.. وفي لحظة انتشاء؛ قام أحدهم فقال: الشاي فيه حديث نبوي شريف..! وصار يسرد ويحكي؛ فقال: «كنَّا جُلوسًا مع النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ؛ فطرح علينا سؤالًا حول نعمة من أفضل النعم التي أنعم الله بها علينا. قلنا ما هي يا رسول الله؟ قال: أتاي.. أتاي.. أتاي..! أي (الشاي)»
وبقي هذا الرجل الشيخ؛ وقد بلغ من العمر عتبًا؛ يردد نفس هذا القول الذي يعتبره حديثًا حتى يومنا هذا.
يومًا حكى لنا نفس الكلام؛ ونحن كبار تعلمنا وقرأنا ما تيسر من العلم؛ فسألني صديقي فقال: يبدو عشبة الشاي لم يتم اكتشافها إلا في القرن 16..! أليس كذلك!؟ ابتسمت؛ وقلت له: اشربها بجرعة ماء؛ فهو يردد ما يسميه حديث شريف منذ زمن بعيد؛ يستحيل أن تصحح له. لكن الحمد لله لا وجود لأحد يصدقه.
هذه الحكاية لفهم بعض (الأحاديث) الغريبة عن الحديث الشريف؛ حيث كان يكفي أن يقول لك أحدهم: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم» حتى يلزمك تصديقه؛ ولا تجد سوى تردد وراءه قول: (صلى الله عليه وسلم)؛ حتى لا يتهمونك يالبخيل.
من الطرائف أيضًا؛ مقولة «حجّوا قبل أن تُمنعوا.» من المعروف أنه حتى حدود سنة 2005؛ وهي بداية العمل بالقرعة في المغرب لقضاء مناسك الحج؛ بالنظر لكثرة الطلب، ومحدودية العرض.
هذا؛ وتجدر الإشارة إلى أنه من قبل كان بالكاد تصريف الحصة المخصصة للمغرب؛ سواء بالنسبة للحصة المخصصة لوزارة الأوقاف؛ أو الحصة المخصصة لوكالات الأسفار.
بإحدى المدن المدن المغربية؛ كان رجل ينوي قضاء فريضة الحج؛ لكن لم يسعفه الحظ في الفوز أثناء إجراء القرعة وأن يكون من الأوائل؛ فبقي على رأس لائحة الانتظار.
بقي الرجل يتردد على مكتب السيد القائد كل يوم يمني النفس لعل أحدهم يتخلى، أو يتراجع عن الذهاب لقضاء مناسك الحج؛ الشيء الذي من المستحيل أن يتحقق؛ إلا إذا مات المعني بالأمر.
لما يئس صاحبنا من الانتظار؛ جاء يومًا عند السيد القائد كعادته يسأل هل من أمل؛ لكن دون جدوى! وكله حسرة؛ تنهّد وقال: «إييه جاء اليوم الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «حجّوا قبل أن تُمنعوا.»
الرجل كان في حالة يأس وإحباط؛ لم يجادله أحد في مدى صحة الحديث..!
قلت مع نفسي: متى ظهر هذا الحديث!؟
لقد ظهر فقط مع إقرار إجراء القرعة؛ للذهاب لقضاء مناسك الحج..! وذلك بسبب تحديد القائمين على خدمة الحجيج لعدد الحجاج المسموح لهم لكل دولة؛ لشدة الزحام في المناسك، وحفاظاً على أرواح الحجيج.
هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتوقع أن يمنع أحد من الحج!؟ هل كان يتوقع أن يكذب عليه أحد متعمدًا لِيتبوأ مقعده من النار!؟
هكذا يتم وضع الأحاديث بناءً على مزاجية الناس. كل حسب مصلحته. فاستغلال حُب ذكر رسُولُ اللَّهِ ﷺ؛ فيما رواهُ الترمذي: «الْبخِيلُ مَنْ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَم يُصَلِّ علَيَّ.» وجد فيها النَّفَّاثُون فرصة لينفُثوا ما يريدون تمريره من أحاديث مكذوبة؛ وأحيانًا مسمومة.
اتهمونا بالقراءة؛ ونحن منها أبرياء! ومع الأيام تكتشف حجم ومساحة التصحر الفكري الذي يجتاح العقول؛ والتي تفوق حجم المساحة التي تحتلها اليابسة من الكرة الأرضية..!

في تحرير الفكر من براثن التخلف والخرافات؛ يفترض طرح السؤال حول مفهوم بعض القِيّم المجتمعية:
هل هي من الضروريات الأساسية التي بدونها ينهار ويهلك ويفسد المجتمع إذا لم يؤخذ بها؟
هل هي من الحاجيات الضرورية التي يبحث عنها البشر؛ حيث يتعب من أجل الوصول إليها من أجل تحقيقها؛ ولكن بدونها لن ينهار المجتمع؛ وحياة الناس ستستمر وستسير؟
أمْ هي مجرد كماليات؛ تدخل في خانة التحسينيات؛ فِعلها من عدمه؛ تحققت أو لم تتحقق؛ فهي خير؟
أعتقد هناك من يختزل صيرورة القيم في أفكار متجاوزة جدًا؛ ونقاشات وجدالات عقيمة؛ لا تسمن ولا تغني من جوع؛ ولا تساهم لا في تنمية؛ ولا في وبناء حضارة في شيء.

عند مجتمعات وشعوب وأمم؛ آمنت بالعلم والمعرفة؛ حولت العائد منه إلى خبرة وتجربة وخلق هالة حضارية. لكن عند مجتمعات خائفة؛ وفي حالة غيبوبة على استمرار؛ ولا تؤمن بالبحث العلمي؛ ومصابة بالشلل وبشتى صور الابتلاءات؛ وغير منفتحة على السؤال؛ بقي النداء عندها يعني: إحفظ واسترجع وكرِّرْ؛ وإيَّاكَ والبحث عن الجديد! لأن سلطة القديم عندها تطال سقف العلم والمعرفة.
وأستعير في هذا الصدد قول المفكر القطري الكبير فضيلة الدكتور جاسم سلطان قاله في سياق معين “الجهل في حد ذاته ليس مشكلة؛ لأن الجاهل يطلب العلم. أمَّا الجهل المركب؛ فصاحبة لا يعلم بجهله؛ بل يظن أنه أعقل الخَلْق وأعلمهم. فإذا اجتمع الجهل المركب، وسوء الخلق حل الخراب.
أحيانًا ندخل في جدال مع شخص يحمل فكرة مغلوطة أو خاطئة تمامًا حول موضوع ما. لكن بعد لحظات تلاحظ أن علامات التوتر بدأت ترتفع لديه؛ لأنه مسكون بقناعات يقينية مطلقة؛ فتقرر عندئذٍ تغيير الموضوع وتأجيل أو توقيف الحوار معه؛ فمع الجهل المركب تأتي قضية (وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) فتختفي فرص الحوار والتفاهم.”

الاجتهاد الفقهي يكون في الظنيَّات؛ أمَّا القطعيَّات فهي تحصيل حاصل ليست موضوع اجتهاد. فما بين مفهوم الخطأ ومفهوم الغلط؛ نجد مفهوم الخطأ: هو مخالفة القوانين والأنظمة والضوابط الموضوعة والمتفق عليها؛ سواء بالإجماع أو الأغلبية؛ أو الأغلبية المطلقة؛ أو حتى المفروضة بالقوة والجبر من طرف أقلية استطاعوا ذلك.
فليس من شِيِّم العلماء وأهل الحِكمة احتكار الرأي أو الصواب. لكن بعض أنماط التفكير الوثوقية يدعي أصحابها الاستفراد بالطبعة الأصلية للحقيقة؛ في حين الآخرين لديهم النسخة المزيفة فقط.
الإمام الشافعي؛ رحمه الله؛ قال: «رأيي صَوابٌ يَحتَمِلُ الخَطأ. ورأيُ غَيري خَطأ يَحتَمِلُ الصَّوابَ.» وقد اتخذ الفقهاء من هذا القول قاعدة أصولية يطبقونها على فقه الظنيات؛ والتي يبقى باب البحث والاجتهاد فيه مفتوحًا غير موصد.
الاجتهاد الفقهي يكون في الظنيَّات؛ أمَّا القطعيَّات فهي تحصيل حاصل ليست موضوع اجتهاد. فعندما يكون حل المشاكل ضعيفًا؛ فهو يُشبه إلى حد ما؛ القياس بمسطرة عوجاء؛ تعطيك قراءات قياس خاطئة لنفس الحالة! لكن الخطير في الأمر؛ هو لما يتشبث بسلامة المسطرة؛ ويبحث عن عشرات الطرق الملتوية؛ ليبرر تلك القراءات الخاطئة.
فالتفكير المنهجي الناقد؛ هو طريقة تحليل وتقييم لجميع الأجزاء المترابطة في إطار نسق أو نظام معين؛ والتي بدورها تشكل موقفًا حتى تحقيق وعي أكبر بالأحداث والوقائع التاريخية؛ وليس إعادة اجترار للأفكار الميِّتة.
والأفكار الميِّتة؛ هي أفكار وُجِدت وخُلِّقت في لحظة تاريخية ما؛ وانتهت مدة صلاحيتها وماتت وأصبحت متجاوزة. ولكن مع ذلك لازالت تؤثث المشهد السياسي والاجتماعي والثقافي؛ ويُعاد تداولها ويتم تدويرها وكأنها ترهن الحاضرة؛ وتكاد تصادر منا حتى المستقبل. والمحزن هو أنه لازالت تصرف، ويهدر الكثير من الوقت في تناولها، ومناقشتها، وشرحها وتفسيرها، والاحتراب معها؛ وهي طاحونة أوهام لا تنتهي.
الأفكار المَيِّتة مثل ذلك العضو المريض نفسيًا والمختل عقليًا داخل الأسرة والمجتمع؛ يتداعى له سائر أفراد العائلة وباقي المجتمع بالعدوى عبر التماهي والتأثر. وهي ترهن الحاضر؛ وقد تصادر منا المستقبل؛ وتحول دون تقدم المجتمع.

هناك البعض ممَن يَعْبُدُون اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ؛ همهم الوحيد هو: تشتيت وصرف تركيز الناس عن التفكير في أهم قضاياهم المصيرية؛ بحيث يقوم بخريجات من أجل تذكير الناس بوجوده؛ وجمع المزيد من اللايكات وصناعة البُوز؛ فيلجأ إلى أسلوب التفاهة والخواء؛ إما لسب وشتم الإمام البخاري رحمه الله واتَّخَاذه هُزُوًا؛ أو التهكم والسخرية من عبارة “صححه” الإمام الألباني رحمه الله! أو التشكيك في آيات قرآنية..! أو أحاديث نبوية شريفة..!
ولو اتبع الناس كلامهم؛ لنسوا النسخة الأصلية للدين الإسلامي..!

*المفكر والكاتب المغربي.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...