الدساتير التي تسكنها روح دينيّة: الدين والسلطة وهيمنة الأقليات في النصوص التأسيسيّة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

* الدُّكتور عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار

 

 

 

في تحليل هذا الموضوع ننطلق من بعض الأسئلة المنهجيّة: هل يمكن لدستور أن يكون حياديًا في مجتمع منقسم دينيًا؟
  في لحظة التأسيس الدستوري، تتقاطع الأسئلة السياسية مع الأسئلة الوجودية: من نحن؟ ما الذي يُشكّل وحدتنا؟ وما هي المرجعية التي تمنح “المشروعية” لسلطة الدولة؟ ضمن هذا السياق، يطرح حضور الدين داخل الدساتير إشكالًا معقدًا لا ينفك عن بنية الهيمنة الرمزية والاجتماعية: هل يمثل الدين مشتركًا جمعيًا يُحتكم إليه؟ أم هو تعبير عن سيطرة فئة تعيد تعريف الدولة على مقاسها العقدي؟ وما الذي يحدث حين تَسكُن “روح دينيّة” في نص يُفترض فيه أن يكون قانونيًا وعقلانيًا وعامًّا؟
* أولًا: حين تُعرِّف الدولة نفسها دينيًا: هل هو اعتراف بالأغلبية أم إقصاء ضمني للأقليات؟
 يُطرح سؤال مركزي: ما الذي يعنيه أن تُصرّح دولة ما، في دستورها، بدين رسمي؟ هل ذلك مجرد اعتراف بالهوية الثقافية والتاريخية للأغلبية، أم هو تأسيس قانوني لامتيازات دينية تتجاوز المجال الرمزي لتُنتج منظومة إقصاء مؤسسي؟
  تنصّ دساتير عديدة على دين للدولة، كما في السعودية: «الإسلام هو الدين والدستور هو القرآن والسنة»، والمغرب: «المملكة دولة إسلامية، والملك أمير المؤمنين»، وإيران: «الإسلام والمذهب الجعفري الإثنا عشري هو الدين الرسمي». وحتى في سياقات غير إسلامية، نجد اليونان تُصرّح بـ«سِيادة الكنيسة الأرثوذكسية»، والدنمارك تُحدّد الكنيسة اللوثرية كمرجعية رسمية.
  ورغم أن هذه الصياغات قد تُقدَّم على أنها تعبير عن «الهوية الجماعية»، إلا أنها تؤسس ضمنيًا لتراتبية غير معلنة في المواطنة، حيث يُصبح الانتماء إلى الدين المُعلن معيارًا ضمنيًا للمشروعية السياسية والثقافية. ففي إيران، على سبيل المثال، ورغم التنصيص على حقوق الأقليات، فإن منظومة الحكم تستبعد فعليًا السُّنّة والبهائيين من المواقع السيادية، وتحاصرهم في الهامش القانوني والاجتماعي.
  هنا يظهر التوتر الجذري بين «الاعتراف الديني» و«الحياد المؤسساتي»: هل يمكن اعتبار التنصيص على الدين مجرد رمز؟ أم هو مقدّمة لمنظومة تشريعية تُمأسِس الفَرْز العقدي وتُعيد إنتاج الهيمنة بأدوات قانونية؟
* ثانيًا: من يملك حق الحُكم؟ الدين كشرط سلطوي وليس فقط مرجعية أخلاقية
  هل يمكن للسيادة أن تكون مشروطة بعقيدة؟ وما الذي يحدث حين تُقنّن الدولة، من خلال الدستور، شروطًا دينية للوصول إلى السلطة؟
  في العديد من الأنظمة الملكية، يُشتَرَط في الحاكم أن ينتمي إلى دين معين، كما هو الحال في الأردن (الملك مسلم من سلالة الشريف الحسين)، وإيران (الولي الفقيه شيعي إثنا عشري)، وتايلاند (الملك بوذي)، والمملكة المتحدة (الملك أنجليكاني لا كاثوليكي). بل إن بعض هذه الاشتراطات تمتد إلى الزوجة، كما في القانون البريطاني الذي يمنع الملك من الزواج بكاثوليكية.
  وعلى الرغم من أن هذه الشروط تُقدَّم غالبًا بوصفها تقاليد سيادية أو ضوابط رمزيّة، إلا أنها تكشف عن منطق تأسيسي يرى في الحُكم امتدادًا لشرعية دينية لا لعقد اجتماعي قابل للتداول. هنا، تتقاطع السيادة مع القداسة، ويتحوّل الحاكم إلى وسيط بين الأرض والسماء، لا ممثلًا لمجتمع سياسي تعددي.
  ضمن هذا التصور، لا تُصنّف “الاختلافات العقدية” كاختلافات مشروعة، بل كمؤشرات على عدم الأهلية السياسية، ما يُعيد إنتاج التراتبية الاجتماعية على أساس عقدي، ويحوّل الدين من «ضمير جماعي» إلى أداة ضبط سلطوي.
* ثالثًا: حين تتكلّم الأقلية باسم الهوية الجامعة: من يُقصي مَن؟
  من يُسيطر على لحظة الكتابة الدستورية؟ ومن يملك سلطة تعريف هوية الأمة؟ هل هي الأغلبية العددية؟ أم النخبة المهيمنة أيديولوجيًا، دينيًا أو علمانيًا؟
  في حالات كثيرة، لا تُصاغ الدساتير كنتاج لتوافق مجتمعي حقيقي، بل تُكتَب تحت ضغط أيديولوجي تُمارسه أقلية متدينة (كما في الدساتير الإسلامية التي وُضعت في ظل صعود الإسلام السياسي)، أو أقلية علمانية (كما في تونس 2014، حيث فرضت نخبة حداثية خطابًا علمانيًا لا يُعبّر عن أغلبية تقليدية).
  في كلا الحالتين، تصبح لحظة التأسيس لحظة «احتكار للتأويل»، ويُعاد تشكيل الدولة بوصفها مرآة لفئة معينة، تُعمّم خطابها الخاص على أنه «الهوية الوطنيّة»، وتُقصي ما عداه بوصفه تهديدًا أو انحرافًا.
  هنا يتقاطع التحليل الفوكوي مع الرؤية الفانونية: فالدولة لا تنتج فقط أجهزة الضبط، بل تُعيد إنتاج الرؤى الوجودية ذاتها، وتُبرمج المجتمع من خلال القانون. وتصبح الدساتير أدوات للهيمنة الرمزية التي تُخفي عنفها تحت غلاف «الإجماع الوطني».
* رابعًا: الشعار الوطني والراية: هل يُمكن أن تكون الدولة محايدة بينما علمها يتلو شهادة دينية؟
  ما الذي يعنيه أن تَحمل راية الدولة شعارًا دينيًا؟ هل هو مجرد رمز ثقافي؟ أم هو إعلان ضمني بأن الدولة تمثّل مكوّنًا دينيًا دون سواه؟
  في السعودية، يتضمن العلم عبارة «لا إله إلا الله محمد رسول الله»، وفي إيران كُتبت كلمة «الله» بخط رمزي داخل العلم، بينما تعتمد إسرائيل نجمة داود كشعار مركزي. في المقابل، ترفع تونس والجزائر الهلال والنجمة، في تداخل ضمني بين الرمز القومي والديني.
  هذه الرموز، حين تُفرض دون توافق وطني حقيقي، تتحوّل من علامات هوية إلى أدوات إقصاء رمزي، خصوصًا حين يشعر جزء من المواطنين بأن الشعار لا يُمثّلهم. هل يُمكن لمسيحي قبطي أن يشعر بالانتماء إلى علم يتضمن شعارًا إسلاميًا؟ وهل يُمكن ليهودي إيراني أو بهائي أن يرى في العلم الممهور بـ«الله أكبر» رمزًا جامعًا؟
  إننا أمام سؤال مزدوج: من يملك تعريف الرمز؟ ومن يملك الحق في الاعتراض عليه؟ ومتى يُصبح الرمز تعبيرًا عن وحدة، ومتى يُصبح تجسيدًا للفرز؟
* خامسًا: التمثلات الرمزيّة والدينيّة في الدستور والراية والرموز الوطنيّة: نموذج الدستور والعلم المغربي
  يمثل العلم الوطني المغربي امتدادًا رمزيًا متشابكًا بين أبعاد دينية وصوفية وسياسية، حيث يعكس تداخل السلطة الشرعية والروحانية في هوية الدولة. فاللون الأحمر الذي يغطي خلفية العلم ليس لونًا عاديًا، بل يحمل دلالة واضحة على السلطة الشرعية المرتبطة بآل البيت الشريفين، الذين تنحدر منهم الأسرة العلوية الحاكمة. هذا اللون مستمد من تراث تاريخي عميق، يرتبط بالنسب النبوي الشريف، وهو ما تؤكده المرجعية الدينية والسياسية للمملكة المغربية، والتي يكرسها دستور 2011 في مواده المتعددة، خاصة في المادة الثانية التي تنص على أن “الإسلام دين الدولة”، وعلى أن “الملك أمير المؤمنين” (الفصل 41)، مما يؤسس لشرعية سلطانية دينية متجذرة.
  النجمة الخضراء الخماسية في مركز العلم الوطني، المعروفة بـ”خاتم سليمان”، تحمل دلالات روحية متجددة، مستمدة من رموز الصوفية الإسلامية التي شكلت جزءًا أساسيًا من النسيج الديني المغربي. فخاتم سليمان، وفق التقليد الصوفي، رمز للحماية والارتباط الروحي، ويجسد البعد الصوفي العميق الذي غرس قيم التوحيد والتصوف في الوجدان الشعبي المغربي، عبر الطرق والزوايا الصوفية التي لعبت دورًا في تشكيل الهوية الدينية والثقافية للبلاد. وهذا البعد الصوفي يعكس تداخلًا بين البعد العقدي الرسمي للدولة وذاكرة شعبية غنية بالروحانية.
  اللون الأخضر المستخدم في النجمة يحمل بدوره دلالة دينية مركزية في الإسلام، فهو لون مرتبط بالبركة والرحمة والنماء، ويرمز إلى الانتماء العقدي الذي تؤسّس عليه الدولة المغربية هويتها الدينية، مع التركيز على حضور آل البيت الشريفين وتعزيز المكانة الروحية للسلطة. وفي هذا الصدد، يبرز الدستور المغربي موقفه الواضح من الحضور الديني في السلطة، عبر التأكيد في المادة 42 على أن “الملك أمير المؤمنين يشرف على الشؤون الدينية”، مما يعكس وحدة السلطة الدينية والسياسية في المؤسسة الملكية.
  بذلك، يصبح العلم الوطني المغربي مؤشرًا بصريًا يعبر عن وحدة مركبة بين الشرعية الدينية المتجذرة في النسب الشريف والروحانية الصوفية، في إطار تكاملي يعكس خصوصية مغربية فريدة. هذه الوحدة الرمزية ليست مجرد تجميع لرموز، بل تعبير عن مسار تاريخي للدولة والهوية الوطنية التي تستند إلى هذه المرجعيات، حيث تكرس السلطة من جهة، وتنمي الانتماء الديني والروحي من جهة أخرى، في انسجام بين بعدين لا ينفصلان.
  من هنا، يعكس العلم الوطني، مدعومًا بنصوص دستور 2011، هذه الشرعية المركبة التي تجمع بين مؤسسة الإمارة الموروثة من الإمام والحاكم، والبعد الصوفي المتجذر في المجتمع، مما يجعل الرموز الوطنية تحكي قصة دولة ذات هوية دينية وثقافية عميقة، لا تنفصل عن رموزها ومرجعياتها الدستورية والسياسية.
* خلاصة: أيّ دستور يُمكنه أن يحضن الجميع دون أن يُؤله أحدًا؟
  هل يمكن لدستور أن يجمع المؤمن والملحد، المسلم والمسيحي، الحداثي والمحافظ، دون أن يُحتكَر من طرف نخبة تُؤله نفسها عبر القانون؟ هل يمكن كتابة «نصّ للجميع» دون أن يكون «نصًّا على الجميع»؟
  إن هذا السؤال لا يُجاب عنه بنص المادة القانونية، بل بالشرط السياسي الذي يسمح بإنتاج دستور في فضاء حُرّ، بلا وصاية دينية ولا هندسة أيديولوجية. دستور لا تسكنه أرواح معلّقة فوق المجتمع، بل يُعبّر عن العقل الجمعي دون أن يتحوّل إلى مرآة لأقلية غالبة.
  وفي ظل عالم تتزايد فيه الهويات القلقة والصراعات الرمزية، ربما يكون السؤال الأخطر اليوم هو التالي: هل نحن نُؤسّس دساتير لدولٍ نريد أن نبنيها، أم نصوغ نصوصًا كي نخضع المجتمعات لتصوّرات نريد فرضها؟ أيّهما أولى بالقداسة: النص، أم الكرامة الإنسانية التي يجب أن يخدمها النص؟

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...