لبنى الفلاح – إعلامية مغربية
سؤال صادم حقا إذا ما وُجِّهَ لأي مواطن أو مواطنة بعيدًا عن السياسة مع أن السياسية هي ما يحدد ثمن الخبز والرغيف وثمن البنطلون الذي يستر أطرافَكَ وسعر لتر البنزين الذي تحرك به مركبتك.
ألم تطرح السؤال على نفسك: ماذا أنت صانع؟ فأنت يا عزيزي مؤهل لدخول السجن في أية لحظة بغض النظر عما إذا كنت صحفيا أو سياسيا أو ناشطا حقوقيا عقب تدوينة شاردة تنعل فيها وضعك بعدما أغضبتك زوجتك المتطلبة أو بتغريدة انسحبت من يديك وأنت في قمة حنقك.
إن اعتُقلتَ يحق لك التمتع بحقوقك كاملة كما جاءت في الفصل 23 من الدستور وباقي فصول القانون؛ يحق لك أن تعرف سبب اعتقالك باللغة التي تفهمها والاتصال بمحاميك لتقديم المساعدة القانونية اللازمة أو حتى الدفاع عنك، كما لك حق التزام الصمت إذ لا يجوز إجبارك على الإدلاء بأية معلوماتٍ قد تدينك، لك الحق أيضا في عدم التعرض للتعذيب إذ يُحظر تعريضك لأي نوع من أنواع التعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية. بعدها وبعد تقديمك أمام أنظار وكيل الملك أو الوكيل العام للملك وإحالتك على جلسة عمومية من المفروض أنك ستتمتع بمحاكمة عادلة أمام محكمة مستقلة ونزيهة، حيث لك الحق كل الحق في الدفاع عن نفسك وتقديم الأدلة والبراهين التي تجدها مناسبة لإثبات براءتك، وفي حال عجزك عن دفع تكاليف المحامي فيمكنك أيها القارئ النبيه، الاستفادة من حقك في الحصول على مساعدة قانونية مجانية تكفلها لك الدولة، كما من حقك الطعن في قرار توقيفك أمام الجهات القضائية المختصة إن كان توقيفا تعسفيا ودون أي سبب وجيه. يمكن كذلك الاستفادة من الزيارة العائلية ومن زيارة محاميك للتخابر والحق في الرعاية الصحية وفي التغذية واحترام كرامتك وغيرها من حقوق السجن بعد نقلك خلف قضبانه.
حسنا يبدو الأمر حضاريا جدا ومريحا للغاية. رغم كل ذلك أنبِّهك عزيزي القارئ من ألا ينساق هَوَاكَ فالواقع مُرٌ؛ فأنت لن تتمكن من الاتصال بمحاميك كما هو مدون في الفصل 23 من الدستور، وقد تتعرض ربما لمعاملة حَاطَّة من الكرامة عكس ما هو منصوص عليه في الفصل 22 من الدستور، كما لن تتمتع من محاكمة عادلة كما هو موثق في الفصل 118 من الدستور ولا داعي لأذكر هنا بملفات كثيرة منها ما وجد طريقه إلى حل سياسي بعد عناء المعتقلين وعائلاتهم كما هو الحال بالنسبة لملفات الصحفيين الثلاثة: توفيق بوعشرين وسليمان الريسوني وعمر الراضي ومدونين آخرين بانتماءات مختلفة، وملفات معتقلي حراك الريف الذين لم يكن لهم من حقٍ سوى الرضوخ لمِصْقَلة القضاء، وملف وزير حقوق الإنسان السابق النقيب محمد زيان الذي مازالت المساطر والأحكام الجنحية فالتأديبية فالجنائية تتهاطل على زنزانته الانفرادية هناك بسجن «العرجات» ضواحي العاصمة الرباط.
ما يقع اليوم جراء تُخمة المتابعات والملاحقات القضائية والأحكام جعل ثقافة جديدة تتسرب بين النشطاء عند الاعتقال أو لدى مرورهم أمام الضابطة القضائية أو أثناء التقديم أمام أنظار النيابة العامة؛ منهم من اختار التزام الصمت، ومنهم ما رفض التوقيع على محاضر الاستماع، ومنهم من رفض الحضور لمحاكمته كما الشأن بالنسبة للمدونة سعيدة العلمي التي اعتُقِلت للمرة الثانية في قضية ثالثة على التوالي، والتي سواء اتفقت أم اختلفت مع طريقة تعبيرها وسواء أعجبك بأم رأيت بأنه لا يتماهى مع أسلوبك الراقي المُرَتَفِّع، فإنها تبقى مواطنة استطاعت أن تعبر عما يخالج فكرها دون خوف ودون أن تنال منها العقوبتيْن السجنيتيْن السابقتيْن شيئا غير أنها جعلتها أكثر صلابة.
ليس ببعيد، وأنا أقرأ نبأ إدانة راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة من طرف قضاء ذ تونس الشقيقة في الأزمة وفي الاعتقالات وفي ترصد المنتقدين بـ14 عاما سجنا نافذا ضمن جملة أحكامٍ تراوحت ما بين 12 و35 عاما بحق عدد من الشخصيات السياسية التونسية في إطار ما يعرف بـ«قضية التآمر على أمن الدولة»، )وأنا أقرأ( أجدني أمام نفس الموقف: راشد الغنوشي أيضا قاطع جلسات كافة الهيئات القضائية كتعبير منه عن رفضه لانعدام شروط المحاكمة العادلة، وطبعا جاء هذا في وقت توجه فيه المعارضة للرئيس التونسي قيس سعيد موجة متصاعدة من الاتهامات باستخدام القضاء كأداة لتصفية خصومه السياسيين.
وللأسف فهذا ليس حال المغرب وتونس فقط، فتلك سِمة الوضع في منطقة المغرب العربي أو المنطقة العربية عموما التي تَغْلِي بالملاحقات القضائية المكوكية والأحكام القضائية الميتافيزيقية الخارجة عن الطبيعة لتقويض احتجاجات الأفراد ضد فساد المسؤولين وتعسف المؤسسات. وحتما إن انحراف السلطة القضائية عن مبادئ العدالة والنزاهة سيؤدي إلى فقدان الثقة في النظام القضائي وتأثير سلبي على سيادة القانون، وبالتالي ردود أفعال: التزام الصمت ورفض توقيع المحاضر ومقاطعة المحاكمات وغيرها من الأشكال الاحتجاجية التي لن تنتهي إلا إذا تَعَدَّلَت الأوضاع وإلا فإن آفة الاعتقال السياسي ستستمر والاحتجاجات ستبقى ما حَيِيتَ واعتقال فلانٍ لِوَأْدِ الاحتجاج لن يمنع من ظهور عِلان لاستمرار هذا الاحتجاج.
وقد أثبتت العشر سنوات الأخيرة فشل السياسة الأمنية التي تبنتها الدولة منذ عام 2016؛ فباعتقال نشطاء حراك الريف انبثق حراك جرادة، وباعتقال نشطاء حراك جرادة أبان صحفيون عن علو كعبهم في كتابات ناقدة منتقدة، وباعتقال الصحفيين ظهر أسلوب جديد: مدونون بتلاوين مختلفة أسهبوا في التدوين والتغريد، وكلما اعتُقل مدون طَفَتْ إلى السطح أسماء مدونين جدد، وهذا دليل على أن من يدبِّرون شؤون البلاد عاجزون عن إيجاد حلول سياسية جدية للوضع الراهن المتأزم بما يقتضيه أسلوب الحوار والاستجابة لإرادة الشعب والاستماع لنبضه، كأسلوب حضاري متمدن في مزاولة السياسة ورزين وراقي في ممارسة سلطتها التي تقوم على العلاقة بين الحاكم والمحكوم ويكمن دورها الأساسي في الاستجابة لإرادة الشعب ومتطلباته، وهذا ليس بعيبٍ ولا بتعبيرٍ عن ضعف الدولة أو انتقاصٍ من مؤسساتها بل العكس.
الاعتقال السياسي طبعا هو سمة كل نظام عربي؛ تنفذه السلطات بحق أفراد أو جماعات على خلفية المواقف السياسية المعارضة أو الانتماءات الحزبية أو التنظيمية المعارضة؛ يهدف إلى القضاء على الخصوم أو إضعافهم للحد الذي يصبحون معه غير قادرين على المعارضة أو مقارعة الأليغارشية/ أو الأقلية الحاكمة، كما أن هدفه قتل الروح الوطنية الرافضة للسياسات الجائرة أو التفرد في الحكم من قبل تحالف المال والسلطة وتهميش الآخر في ظل استفادة محدودة للجماهير من الثروة، ما أخذ يفرز قدرا من الغضب الشعبي قد يتحول إلى أي شكل من أشكال الفعل المباشر، خاصة في سياق أنظمة لا تتردد في استخدام القوة المفرطة في التعامل مع الانتقادات الموجهة إليها، فكل خروج محتمل عن اللعبة السياسية وكل محاولة رفضٍ ستجد ممانعة من قبل الطبقة السائدة وبالتالي الاعتقال.
هل الاعتقال السياسي هو الحل لكل المشاكل السياسية؟
أكيد لا، بل علامة على عدم قدرة نظام الحكم في أية دولة كيفما كان نوعه، على معالجة الخلافات بالطرق السلمية، بل الأنكى أنه يؤدي إلى تفاقم التوترات وزيادة الاستقطاب وانتهاك حقوق الإنسان.
ما الحل إذن؟
الحرية هي الحل؛ فمنحها للأفراد والمجتمعات من شأنه تحقيق التقدم والازدهار وتحقيق الأفراد لإمكاناتهم من شأنه المساهمة في بناء مجتمع أفضل، عدا ذلك فإننا حتما وإن اجتزنا انتفاضة حركة 20 فبراير وحراك الريف وحراك جرادة فإننا لن نجتاز انتفاضات شعبية أخرى مماثلة في سياق محموم كهذا الذي نعيشه اليوم، وها هي ساكنة أيت بوكماز تلك القرية النائية في قلب جبال الأطلس قد خرجت اليوم في مسيرة ضخمة حاشدة تطالب بالطرق لفك العزلة عنها وبالصحة وبالتعليم وربطهم بالماء الصالح للشرب والكهرباء وهي في مجملها مطالب للعيش بكرامة تكررت في حراكيْ الريف وجرادة. أمس ريف البلاد وشرقه واليوم جبال الأطلس الكبير وغدا أين؟؟؟
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لجريدة إيطاليا تلغراف





