الوصيّة المؤسِّسة: تشريح العقل العملي في وصيّة مالك لتلميذة الشافعي بين الاستقلاليّة المعرفيّة وإدارة وتدبير الوجود
*الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار
* من النصح الشخصي إلى العقل الحضاري
لا تنتمي وصية الإمام مالك لتلميذه الشافعي إلى دائرة النصح الأخلاقي المحدود، بل تمثل وثيقة تأسيسيّة تكشف عن العقل العملي الذي حكم تكوين الشخصيّة العلميّة في الحضارة الإسلاميّة.
هذه الوصية، بتركيبها المتعدد الأبعاد، تتحول من مجرد توجيهات أخلاقيّة إلى خطاب مؤسس لفنون إدارة وتدبير الوجود العلمي في فضاء اجتماعي وسياسي جد معقد.
تعتبر الوصيّة بمثابة تشريع لماهيّة العالِم ككيان مستقل لا ككيان تابع، وكيفيّة الحفاظ على هذه الاستقلاليّة في بيئة تشتبك فيها السلطة والمجتمع والمعرفة.
* أولاً: جغرافيا المعرفة: معادلة الأرياف والمدن كفضاءات رمزيّة
– “لا تسكن الأرياف فيضيع علمك”؛
يبدو هذا النهي في ظاهره نصحاً اجتماعيًا، لكنه في جوهره تشريع لجغرافيا المعرفة. فالريف هنا ليس مجرد مكان، بل هو فضاء رمزي للعزلة والانكفاء، حيث يفتقد العالم حوارية السؤال والجواب التي تنشط في المدن.
لكن السؤال الأعمق: هل كان مالك يحذر من الريف كمكان، أم من العزلة كحالة وجوديّة تهدد ديناميكيّة العلم؟
إن تحذير مالك يشير إلى أن المعرفة ليست مادة خاملة تُختزن في الكتب، بل هي كائن حي يحتاج إلى بيئة حاضنة تستفز طاقاته الإبداعيه.
المدينة الإسلاميّة في عصر مالك لم تكن مجرد تجمع سكاني، بل كانت فضاءً للتفاعل الحضاري، وسوقاً للمعارف المتبادلة.
لكن هذه المدينة نفسها تحمل خطراً موازياً: تحول العلم إلى سلعة في سوق الأمكنة الاجتماعيّة. وهنا تكمن عبقريّة الوصيّة في تقديمها لرؤية متوازنة: الريف يعزل العلم عن حركيّة الواقع، والمدينة قد تستهلكه في صراعات النفوذ والوجاهة.
* ثانياً: اقتصاديات الكرامة: المال كشرط للاستقلال المعرفي
– اكتسب الدرهم ولا تكن عالة على الناس”؛
في هذه العبارة يحول مالك مفهوم الزهد من انقطاع عن الدنيا إلى سيادة عليها. فالمال هنا ليس غاية، بل وسيلة لتحقيق الاستقلال الوجودي الذي هو شرط لازم للاستقلال الفكري.
لكن كيف يمكن للعالم أن يقول كلمة الحق وهو مكبل بقيود الحاجة؟
إن هذه الوصيّة تقدم نظرية متكاملة في “اقتصاديات الكرامة العلميّة”، حيث يصبح الاكتساب الحلال ضمانة لأداء الرسالة المعرفيّة بلا تبعية.
إنها إجابة مبكرة على السؤال الجوهري: هل يمكن للفكر الحر أن ينبثق من رحم الحاجة؟
يبدو أن مالك يجيب بالنفي، معيداً تعريف الزهد ليس كفقر اختياري، بل كتحرر من التبعيّة المادية التي تهدد النزاهة الفكريّة.
* ثالثاً: ترويض السلطة: فنون الاقتراب دون احتراق
– “اتخذ لك ذا جاهٍ ظهراً… ولا تدخل على ذي سلطنة إلا وعنده من يعرفك”
في هذه الكلمات يبلور مالك فلسفة متكاملة للعلاقة مع السلطة. إنه لا يدعو إلى القطيعة الكاملة، ولا إلى الاندماج الكلي، بل إلى هندسة دقيقة للمسافة. فالعالم يحتاج إلى حماية السلطة، لكنه يحتاج أكثر إلى حماية علمه من استلاب السلطة.
إن هذه الرؤية تنبع من فهم عميق لطبيعة المعرفة والسلطة كقوتين متجاذبتين. فكما تحتاج السلطة إلى شرعيّة المعرفة، تحتاج المعرفة إلى حماية السلطة.
لكن الخطر يكمن في تحول هذه العلاقة التبادلية إلى علاقة تبعية. لذلك يشترط مالك شروطاً للقاء: وجود من يعرف مكانة العالم، والحفاظ على المسافة الرمزية.
إنها استراتيجية للاحتفاظ بالهيبة في لحظة الاقتراب من مصدر القوة.
* رابعاً: جماليات المسافة: الهيبة كمنتج للحدود
– “إذا جلست عند كبير فليكن بينك وبينه فسحة”؛
تمثل هذه الوصيّة ذروة الوعي بفقه المسافة كمنتج للهيبة. فالمسافة هنا ليست مجرد بُعد مكاني، بل هي بُعد نفسي ورمزي يحفظ للعالم هيبته ويحميه من الانزياح نحو التبعيّة.
إن جماليات المسافة التي يقدمها مالك تنبع من فهم عميق لسيكولوجيا العلاقات بين المختلفين في المكانة. فالقرب المفرط يذيب الحدود، والبعد المفرط يقطع الجسور.
والعالم الحكيم هو من يتقن فن البقاء في منطقة وسطى: قريب بما يكفي للتأثير، وبعيد بما يكفي للاحتفاظ باستقلاليّته. إنها معادلة دقيقة تحتاج إلى حساسيّة فائقة في الإدارة والتدبير والقياس.
* خامساً: الوصية كنموذج حضاري: استمرارية السؤال في الزمن الراهن
تتجاوز هذه الوصيّة حدود زمنها لتصبح نموذجاً حياً لعلاقة المثقف بالسلطة والمجتمع. في عصرنا الحالي، حيث تتعقد شبكات العلاقات بين المعرفة والسلطة، وتتعدد مصادر التمويل والتأثير، تبرز أسئلة الوصيّة بشكل أكثر إلحاحاً.
كيف يحافظ العالم اليوم على استقلاليّته في ظل مؤسسات البحث التي تتحكم بها مؤسسات أو رأس المال؟
كيف يبني هيبته في زمن وسائل التواصل الاجتماعي التي تسطح العلاقات وتذيب الحدود؟
هل يمكن لعالم اليوم أن يكون قريباً من دوائر السلطة دون أن يفقد نزاهته الفكريّة؟
إن وصيّة مالك رحمه الله؛ تقدم لنا إطاراً منهجياً للإجابة عن هذه الأسئلة، لكنها لا تقدم إجابات جاهزة. إنها تدربنا على طرح السؤال الصحيح أكثر مما تعطينا الإجابة النهائيّة.
* خلاصة: نحو إعادة اكتشاف فن الوجود العلمي
لا تمثل وصيّة مالك لتلميذة الشافعي رحمه الله؛ مجرد تراث من الماضي، بل هي خطاب حيوي يستفز وعي المثقف المعاصر.
إنها تدعونا إلى إعادة اكتشاف فنون الوجود العلمي المتوازن: وجود يجمع بين العمق المعرفي والحكمة الاجتماعيّة، بين النزاهة الفكريّة والواقعيّة السياسيّة، بين الرسالة المعرفيّة وفنون إدارتها وتدبيرها.
إن السؤال الذي تتركنا الوصيّة أمامه هو: هل يمكن لعالِم اليوم أن يبني مشروعه المعرفي بعيداً عن إغراءات السلطة وضغوط السوق، وقريباً من هموم الناس ورسالة المعرفة؟ أم أننا أمام نهاية نموذج العالِم المستقل المحايد وغير المتحيّز، وبداية عصر التابعين الجدد الذين تستهويهم بريق السلطة ويستهويهم غرور الشهرة؟
تبقى الوصيّة تذكرنا بأن العلم ليس مجرد معرفة نحمله في الكتب، بل هو كيفيّة وجود في العالِم والمثقف، وفن في إدارة وتدبير المسافات، ووعي بالحدود التي تصون الكرامة وتحفظ الاستقلاليّة.
* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).





