الحدود الأفريقية والذاكرة الاستعمارية والمسارات الجيوسياسيّة: حين تستعيد الصحراء المغربيّة معنى السيادة

إيطاليا تلغراف

 

 

 

*الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

 

* أولاً: من الأرض الخلاء (Terra Nullius) إلى الذاكرة السياديّة: الصحراء المغربية ومأزق العبث الاستعماري
 إنّ قطيع الجمال والنوق الذي يسافر من لگويرة عبر الداخلة والعيون والسمارة والطنطان وكلميم، وصولًا إلى بوزكارن وطاطا وفم زكيد وفن الحصن وأقا وامحاميد الغزلان وزاكورة، ويتجاوز ذلك ليبلغ تخوم سوس وأزيلال، لا يحمل مجرد حركةٍ في المكان، بل رمزًا عميقًا للذاكرة الحية التي تتجاوز مفهوم “الجغرافيا السياسية الاستعمارية”.
 فهذا القطيع لا يعرف الحدود الوهمية التي رسمها الاستعمار، ولا يعترف بخطوط الخرائط، بل يسير ببوصلةٍ مزروعة في ذاكرته الأولى، في تماهٍ مع فلسفة العبور الصحراوي التي تؤمن بأن الوجود لا يُقاس بالإقامة، بل بالاتصال والاستمرار.
 السراب هنا ليس خداعًا بصريًا، بل بوصلة روحية تحفظ للكائن مساره رغم تبدّل الجهات. فالمسافر الصحراوي، كالجمل الذي يقوده، لا يبحث عن الماء المادي فحسب، بل عن وعد الماء؛ أي عن المعنى الذي يجعل الرحلة ممكنة حتى وإن لم تكتمل.
 هكذا تتحول الصحراء إلى فضاء للوعي والذاكرة، إلى خريطةٍ من المعاني قبل أن تكون مساحةً من الرمال. إنها فلسفة في البقاء عبر العبور، لا عبر التملّك؛ إذ البقاء هنا فعل رمزيّ، يتأسس على الإدراك لا على السيطرة.
* ثانيًا: الصحراء المغربية: الذاكرة في مواجهة الخطأ الاستعماري
 في هذا الأفق الرمزي، تُطرح إشكالية الصحراء المغربية لا كمسألة حدودٍ جغرافية، بل كقضية وجودٍ تاريخي وذاكري. فالاستعمار، حين جاء، حمل معه مفهومًا غريبًا عن الأرض: (Terra Nullius)؛ أي “الأرض الخلاء”، التي لا يسكنها أحد ولا تخضع لسيادةٍ معترف بها.
 غير أنّ هذا المفهوم ينهار أمام شواهد التاريخ المغربي؛ فالصحراء لم تكن قط أرضًا خالية، بل فضاءً عامرًا بالرحل، والزوايا، والولاءات المخزنية، والعهود السياسية والروحية التي تربط القبائل بالسلطة المركزية.
 هل يمكن اعتبار فضاءٍ تتردّد فيه الأدعية للسلطان، وتُرفع فيه الرايات المخزنية، وتُعقد فيه البيعة على يد الشيوخ والزوايا، أرضًا بلا سيادة؟
 إنّ الخطأ الاستعماري لم يكن في الجهل بالجغرافيا فحسب، بل في تجاهل الذاكرة. فالصحراء المغربية كانت وما تزال فضاءً مأهولًا بالولاء قبل أن تكون مأهولة بالعمران، وبالعلاقة السياسية قبل أن تُقاس بالمباني والمؤسسات.
 لقد أخطأ “شارل دو فوكو” حين تحدّث عن المغرب باعتباره أرضًا مترامية الأطراف بلا سلطة مركزية؛ إذ لم يفهم أن السلطة في المغرب كانت تُمارس كإشعاعٍ رمزيّ أكثر منها كجهازٍ قسريّ.
 فالسلطان في فاس أو مراكش، لكن سلطته كانت تُستشعر في أدعية تمبكتو وشنقيط ونيجيريا، في ترابطٍ يعبّر عن منظورٍ مغربيٍّ خاص للسيادة يتجاوز المفهوم الغربي الضيق للدولة الإقليمية.
* ثالثًا: وجع عبث التقسيم الاستعماري وتداعياته البنيوية إلى اليوم
 يشكّل النصّ الاستعماري الذي عبّر عنه اللورد ساليسبري شهادةً موثّقة على اللامسؤولية الأخلاقية والسياسية التي رافقت فعل تقسيم القارة الإفريقية في نهايات القرن التاسع عشر. فهو لا يكشف الطابع الاعتباطي للحدود فحسب، بل يفضح البنية الذهنية للعقل الإمبريالي الذي تعامل مع الجغرافيا بوصفها فراغًا، ومع الإنسان كعنصرٍ يمكن تجاوزه في معادلة المصالح.
 لقد مثّل التقسيم الاستعماري للقارة جريمة جغرافية وأنثروبولوجية بامتياز؛ إذ تحوّلت إفريقيا إلى مختبرٍ لإعادة تشكيل الوجود البشري وفق منطق السيطرة. لم تكن الحدود خطوطًا بريئة، بل أدواتٍ لإعادة توزيع القوة، وإنتاج التبعية.
 النبرة الساخرة التي تحدّث بها “اللورد ساليسبري” ليست زلّة لغوية، بل تجسيد لفكرٍ استعلائي متجذّر في بنية الحداثة الغربية، التي اعتبرت التفوق الحضاري تبريرًا للغزو، والجهل بالجغرافيا تفصيلًا لا يعيق “حتمية السيطرة”.
 هكذا تحوّل المزاح السياسي إلى قرارٍ مؤسسٍ لقرونٍ من المعاناة، وما رُسم حينها بخطوطٍ مستقيمةٍ على الورق ما زال اليوم ينزف دمًا في الواقع الإفريقي.
 فما خلّفته تلك الخرائط من آثارٍ لم يكن سياسيًا فقط، بل أنثروبولوجيًا وسوسيولوجيًا أيضًا. إذ مزّقت الروابط القبلية والثقافية، وشتّتت الأسر والقبائل، وفرضت على الشعوب نظمًا سياسية لا تنسجم مع بنيتها التاريخية ولا مع إيقاعها الاجتماعي.
 لقد غرس الاستعمار في جسد القارة عطبًا بنيويًا دائمًا؛ حدودًا تشكّك في ذاتها، ودولًا متوترة مع محيطها، وهوّيات ممزقة بين ذاكرة الأصل وحدود الميراث الاستعماري.
 أما ما سُمّي بـ”الأنثروبولوجيا الاستعمارية”، فلم يكن علمًا محايدًا، بل غطاءً معرفيًا للعنف السياسي. فالمستعمر جمع الوثائق والدراسات لا حبًّا في الفهم، بل لتبرير الطمع.
 إنها إحدى أكثر صور “العقلانية الكولونيالية” قسوة: عقلٌ يُسوّغ الغزو بمنطق البحث العلمي، ويغلف الإلغاء بخطاب التمدين.
 من هنا، يتبيّن أن الجريمة الكبرى لم تكن في رسم الحدود فقط، بل في اغتيال الذاكرة الجماعية للشعوب، وتحويل الانتماء من رابطةٍ ثقافيةٍ حيّة إلى رقمٍ إداري في سجلات الدول الاستعمارية.
 لقد كان كلّ خطٍّ على الخريطة فصلًا بين إخوةٍ، وكلّ نقطةٍ جغرافية نُسبت إلى دولة جديدة كانت محوًا لجزءٍ من الذات الإفريقية.
 وبعد مرور أكثر من قرنٍ على تلك الفعلة، ما تزال القارة الإفريقية تعيش تداعياتها البنيوية والنفسية: حروبًا داخلية، نزاعات حدودية، وانقسامات هوياتية تعيد إنتاج منطق الاستعمار في أشكالٍ جديدة.
 فلم يغادر المستعمر تمامًا، بل ترك خرائطه تمارس استعمارها الرمزي كلّ يوم، في العقول قبل الأرض.
 إنّ قراءة هذا الإرث لا تعني العودة إلى الماضي، بل تفكيك الحاضر الاستعماري الكامن في أنساق التفكير والسياسة والاقتصاد.
فالتقسيم لم يكن حدثًا عابرًا، بل تأسيسًا لفلسفةٍ في السيطرة ما زالت قائمة: فلسفة تُحوّل الأرض إلى سلعة، والإنسان إلى تابع، والذاكرة إلى حقلٍ للمحو والتشويه.
* رابعًا: نحو وعيٍ جديد بالحدود والذاكرة
 أمام هذا الإرث المزدوج؛ إرث الصحراء المغربية كذاكرةٍ حيّة، وإرث إفريقيا كقارةٍ مجروحة؛ يبرز سؤالٌ جوهري:
 كيف يمكن للذاكرة أن تستعيد دورها في إعادة ترميم الجغرافيا، لا بمعناها الطوبوغرافي، بل بمعناها الوجودي؟
 إنّ تجاوز حدود الاستعمار لا يكون بترسيم حدودٍ جديدة، بل بإعادة اكتشاف الذات الحضارية التي ترفض أن تُختزل في خرائط الغير.
 فالقارة الإفريقيّة، من المحيط إلى الصحراء، ومن الأطلس إلى تمبكتو، لا تحتاج إلى حدودٍ كي تُثبت وجودها، بل إلى وعيٍ يعيد للإنسان مكانته كفاعلٍ في التاريخ، لا كموضوعٍ في وثائق الآخر.
 هكذا فقط يمكن أن تتحرر الخرائط من معناها الاستعماري، وتتحول من أدواتٍ للتقسيم إلى جسورٍ للذاكرة المشتركة.

* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...