د.عبد العزيز العمراني
أكاديمي مغربي
شكّل نداء عبد الله أوجلان، الزعيم المعتقل لحزب العمال الكردستاني، بالتخلي عن العمل المسلح واعتماد الحوار والديمقراطية كوسيلتين وحيدتين لحل النزاعات، نقطة تحوّل تاريخية في مسار الصراعات الإثنية والسياسية في المنطقة. فبعد ما يقارب أربعة عقود من المواجهة المسلحة بين الحزب والدولة التركية، شدّد أوجلان على أنه “لا طريق أمامنا سوى الديمقراطية والحوار الديمقراطي”، مؤكدًا أن “لغة هذا العصر هي السلام”.
تعكس هذه التصريحات وعيًا عميقًا بفشل الصراعات المسلحة المرتكزة على الإيديولوجيات القومية الجامدة والمشاريع الانفصالية، إذ لا تسفر إلا عن المزيد من المعاناة وتعقيد الحلول الممكنة. لقد أدرك أوجلان، بعد عقود من الصراع، أنّ المصير المشترك للشعوب يفرض الحوار بدلًا من العنف، والتعايش عوضًا عن المواجهة.
وفي سياق قضية الصحراء المغربية، يُمكن اعتبار نداء أوجلان درسًا بالغ الأهمية لجبهة البوليساريو الانفصالية. فبعد مرور خمسة عقود على نزاع مفتعل، أثبت خطاب الحرب عجزه، ولم يفضِ إلا إلى الجمود السياسي والمآسي الإنسانية في مخيمات تندوف. وكما تبيّن لأوجلان أن الحل الأمثل للقضية الكردية داخل الدولة التركية يكمن في الانخراط في المسار الديمقراطي والتعايش السلمي، فإن على البوليساريو أن تدرك أن التسوية المثلى لقضية الصحراء المغربية تكمن في التفاعل الإيجابي مع المسار الديمقراطي الذي تنهجه المملكة المغربية، بدلًا من التمسك بمشروع انفصالي فقد الكثير من زخمه ودعمه الدولي. ويُعزى هذا التحول في المواقف الدولية إلى النجاحات التي حققتها الدبلوماسية المغربية خلال السنوات الأخيرة.
وقد شكّل اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية، في عهد الرئيس دونالد ترامب، بسيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية، وتأييدها لمبادرة الحكم الذاتي باعتبارها حلًا جادًا وموثوقًا وواقعيًا، إنجازًا دبلوماسيًا نوعيًا. كما أعادت قوى أوروبية رئيسة مثل فرنسا وألمانيا وإسبانيا تأكيد دعمها لوحدة المغرب الترابية؛ إذ وصفت ألمانيا المبادرة المغربية بأنها مقترح جاد وذي مصداقية، بينما اعتبرت إسبانيا أنها “الأساس الأكثر جدية وواقعية ومصداقية” لحل النزاع. أما فرنسا، فقد ظلت على موقفها التاريخي المؤيد لهذه المبادرة.
وفي خطاب سامٍ، أكد جلالة الملك محمد السادس أنّ “قضية الصحراء هي المنظار الذي يرى من خلاله المغرب العالم”، مشددًا على أنّ الشراكات الدولية تُبنى على أساس مواقف الدول من وحدة المغرب الترابية. وقد مكّن هذا الموقف الواضح المغرب من التمييز بين الحلفاء الحقيقيين وأولئك الذين تتسم مواقفهم بالغموض أو التردد.
وانطلاقًا من تجربتي الشخصية، بصفتي أستاذًا سابقا للغة الإنجليزية بمدينة الداخلة، أتيح لي التفاعل المباشر مع الطلبة الصحراويين وسكان المنطقة. وقد لمست من خلال تلك اللقاءات شعورًا وطنيًا عاليًا وانتماءً صادقًا للمغرب في صفوف العديد من الصحراويين. وقد عبّر كثير منهم، خلال نقاشاتنا، عن رفضهم للخطابات الانفصالية، مؤكدين أن جبهة البوليساريو لا تمثلهم. ومن هذا المنطلق، ينبغي الإصغاء لأصوات سكان مدن مثل الداخلة والعيون عند الحديث عن “الشعب الصحراوي”، لأن اختزال هذه الفئة المتنوعة في حركة انفصالية واحدة يُعد تبسيطًا مجحفًا وغير موضوعي.
تماشيًا مع نداء أوجلان، فإن الخيار الأجدر بالبوليساريو اليوم يتمثل في التخلي عن العمل المسلح، وحلّ نفسها كتنظيم عسكري، والتحول إلى حركة سياسية تؤمن بالحوار وتسعى إلى التنمية في إطار مبادرة الحكم الذاتي المغربية. إن مواصلة الخطاب الانفصالي وتبني النهج العسكري لا يخدمان سوى في تعميق معاناة الصحراويين، ويؤديان إلى تقويض الاهتمام الدولي بالقضية. ومن خلال الانخراط الصادق في العملية السياسية، يستطيع الصحراويون أن يتحولوا من موقع الأزمة إلى فاعلين في صناعة الحل.
ومن الجليّ أن الطموحات الانفصالية باتت تُوظف لخدمة أجندات خارجية تهدف إلى استغلال النزاع لتحقيق مكاسب جيوسياسية، في حين يتحمّل الصحراويون وحدهم أعباء هذه الحسابات. وكما تصوّر أوجلان مستقبلًا يقوم على “جمهورية ديمقراطية أخوية”، فإن على قيادة البوليساريو أن تُدرك أن المغرب يشكل الإطار الطبيعي والشرعي لحل النزاع. فالمشاركة في مبادرة الحكم الذاتي المغربية تفتح المجال لبناء وطني شامل ومستقبل مشترك لجميع المغاربة، بمن فيهم الصحراويون.
إن تصريحات أوجلان تعكس تحوّلًا جوهريًا في التعاطي مع النزاعات ذات الطابع القومي الإثني، وتشكل درسًا ثمينًا للبوليساريو. فالكفاح المسلح لا يؤدي إلا إلى طريق مسدود سياسيًا واجتماعيًا، بينما يتيح خيار السلام والحوار والمشاركة الديمقراطية إمكانيات حقيقية لتحقيق حلول دائمة وشاملة. ومن خلال تقديم مقترح للحكم الذاتي يتميز بالجدية والواقعية، يوجّه المغرب دعوة مفتوحة لجميع الصحراويين للمساهمة في بناء مستقبلهم ضمن السيادة الوطنية، بعيدًا عن أوهام الانفصال التي لم تخلّف سوى المعاناة والجمود.
تُعدّ قضية الصحراء المغربية إحدى مخلفات الحرب الباردة، وقد استمر هذا النزاع بفعل تدخلات إقليمية من أطراف كجزائر وليبيا. آن الأوان لوضع حدٍّ نهائي لهذا الفصل، والتوجه نحو التطبيق الكامل لمبادرة الحكم الذاتي المغربية. فتمكين الساكنة المحلية من تدبير شؤونها يمثل حجر الزاوية لتحقيق تنمية مستدامة في بيئة مستقرة وآمنة – وهو ما يخدم مصالح المنطقة وتطلعات الشعب الصحراوي في آنٍ واحد.