سبق إبليس في الوُجود وحيلة الإنسان: حين تلتقي الحكمة الشعبيّة بالرؤية القرآنية..
د. عَبْدُ اللَّهِ شَنْفَار
ونحن على مقربة من أيام عظيمة من شعائر الله، أيام النحر ورمي الجمرات، نستحضر في الثقافة الشعبيّة المغربية قولًا مأثورًا يجري على ألسنة الناس، موجزًا في لفظه لكن عميقًا في دلالته:
«اللّي سْبَقك بليلة، فاتك وسْبَقك بِحِيلة».
هي جملة بسيطة تُقال لتبرير الفارق في الحنكة أو النجاح بين اثنين، عندما يكون لأحدهم سبقٌ زمني، ولو ضئيل، يُترجم إلى تفوق في التجربة والمراوغة والدهاء.
إنها حكمة مألوفة في الأوساط الشعبية، لكنها تُشكّل مفتاحًا لفهمٍ رمزيّ لجانب من الصراع الوجوديّ الأزليّ بين الإنسان والشيطان.
لكن ماذا لو نقلنا هذا المثل من سياقه المعيشي اليومي إلى ساحة أوسع؛ ساحة الصراع الوجودي بين الإنسان والشيطان؟
- الشيطان… اللي سبقنا بليلة:
القرآن الكريم يرسم لنا تسلسلًا زمنياً دقيقًا للخلق؛ فإبليس خُلق قبل آدم، وكان حاضرًا وشاهداً لحظة الإعلان عن الخلق وأمر بالسجود له، لكنه أبى واستكبر. ومنذ تلك اللحظة، وهو يعلن تمرّده، ويتعهد بإغواء بني آدم بكل ما أوتي من حيلة ووسوسة: “قال فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ” (الأعراف: 16).
فالسبق الزمني هنا ليس مجرد “ليلة” كما في المثل، بل هو سبق وجودي طويل، استثمره إبليس في فهم النفس البشرية، والتغلغل في دواخلها، واختبار نقاط ضعفها.
- من الحيلة إلى الوسوسة:
المثل يقول: “سبقك بحيلة”، أما الشيطان رحيله معقدة ومتجددة باستمرار ومتخفية. فالقرآن يصفه بالوسواس الخناس؛ أي الذي يوسوس ثم يختفي ويعود من حيث لا يتوقعه المرء.
تَاحْرَمِيَّات إبليس ليست ساذجة، بل هي تكيّف مستمر مع مسلسل ومسارات مزاج البشر ومعاناتهم وطموحهم وقلقهم الوجودي.
لهذا قد يُغريك بالمصلحة أو يخدعك باسم الدين أو يدفعك إلى الشك باسم العقل أو يغريك بالكسل باسم التوكل.
ولكن.. سبق الحيلة لا يعني الغلبة؛ ففي مقابل حيلة إبليس؛ يملك الإنسان نعمة الوعي وحرية الإرادة والهداية الربانيّة. فالله لم يترك الإنسان لقمة سائغة لعدو خفي، بل أنزل كتبًا، وأرسل رسلًا وأعطاه قدرة على التمييز والتوبة والعودة.
بل إنّ كيد الشيطان وُصف في القرآن بالضعف: (إن كيد الشيطان كان ضعيفًا). (النساء: 76).
المثل الشعبي يُصيب… لكنه لا يُحسم:
صحيح أن من يسبقك في التجربة قد يتفوق عليك، لكن ذلك لا يعني أنه سيهزمك. فسبق إبليس في الحيلة لا يُلغي إمكانات الإنسان في الصمود والتحدي ولا يُخرِج المعركة عن إطارها العادل.
إنه تحدٍّ دائم بين سبقٍ في الخلق والوُجود واستعدادٍ في الوعي.
في استحضار ركن الحج في قصة رمي الجَمَرات بين نبي الله إبراهيم عليه السلام؛ وإبليس لعنه الله؛ تتجاوز مسألة العقدة الشيطانية (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ)؛ وإهانة وتحقير إبليس وإظهار مخالفته الشهيرة لأمر من أوامر الله تعالى حين: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ!؟)؛ حيث رماه بسبع حصوات في هذه الأماكن المقدسة التي يقوم الحجاج فيها برمي الجمرات؛ لما حاول أن يغريه ويغويه ويصده عن تصديق الرؤيا؛ القاضية بذبح ولده إسماعيل عليه السلام؛ إلى حِكمة عظيمة؛ وهي التضامن والتآزر والتكامل والاحتشاد على رمي الظالمين والطغاة والمستبدين والفاسدين بالحجارة لجَعلهمْ كَعَصْفٍ مأْكُول.
أمَّا الشيطان فلا وجود له بتلك الأماكن المقدسة والمعظمة.
وهنا ندرك الفرق بين قَرْيَةٍ ظَالِمَة؛ والْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا كما جاءت في القرآن الكريم. فالْقَرْيَة الظَّالِمة؛ بطبيعتها وتربتها ووديانها الغَيْرِ ذوات زَرْع؛ وليس فيها من الرزق؛ ولا من الثَّمَرَات؛ ومناخها القاسي؛ وتسمى أيضًا بالمناطق الطاردة بحكم طبيعتها. أمَّا الْقَرْيةُ الظَّالِم أهلهما؛ فهي التي يسود فيها الظلم والاستبداد والاعتداء والشطط والتعسف.
شخّص عبد الرحمن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» أن سبب هذا الداء يتمثل في الاستبداد السياسي بأنواعه الكثيرة، وصوره العديدة والمتعددة والمتنوعة؛ ومنها استبداد الجهل على العلم؛ واستبداد النفس على العقل.
ويرى: “إن الله خلق الإنسان حرّا؛ قائده العقل؛ فكفر وأبى إلا أن يكون عبدًا قائده الجهل.
ويرى إن المستبد فرد عاجز، لا حول له ولا قوة إلا بأعوانه؛ أعداء العدل وأنصار الجور، وأن تراكم الثروات المفرطة، مولِّدٌ للاستبداد، ومضرٌ بأخلاق الأفراد، وأن الاستبداد أصل لكل فساد.”
في القرآن الكريم؛ الْقَرْيَة الظَّالِمِ أَهْلُهَا والْقَرْيَة الظَّالِمة؛ نلاحظ هذا الجمال والتشريف والتعظيم في تقدير مكة المكرمة في القرآن؛ المكان الوحيد في الأرض الذي لم يصفه الله سبحانه تعالى؛ بالظلم؛ في كل آيات القرآن.
وبالتالي الإنسان مطلوب فيه إعمال العقل والحس النقدي. فالتفكير الناقد؛ هو حارس على بوابة العقل. في كتابه (التفكير النقدي مدخل في طليعة المحاجة وأنواعها) لفضيلة الدكتور عمرو صالح ياسين؛ يرى أن الدور الأساسي للحارس؛ هو عملية التقويم.
فالعقل الناقد ليس ساذجًا؛ يأخذ الكلام على عواهنه؛ فهو يحسن التقويم للادعاء؛ قبل أن يسكن العقل؛ وقبل أن تخرج منه أيضًا؛ من خلال القيام بعمليات: التعريف، والبرهان؛ وتقييم الادعاء. وهؤلاء أصحاب العقل النقدي؛ يتميزون بش09بكة من المستقلات العقلية تجعل لديهم قدرة على التمييز من خلال حرَّاس بوَّابة العقل لتحريره من براثِنِ الهيمنة والسطو والاستلاب والاستغراب. والتفكير النقدي لا يكتفي بحراسة وتصفية كل ما يحاول الدخول إلى عقل الإنسان؛ لكن أيضًا هو الحِرص على كل ما يخرج من العقل ويتلفظ به اللسان وإخضاعه للتصفية والغربلة قبل الخروج.
* وفي الخلاصة:
حين تتقاطع الحكمة الشعبيّة مع الرؤية القرآنية، حيث تتولد تأملات عميقة تُذكّرنا أن معركة الإنسان ضد إبليس ليست مجرد مواجهة بين الخير والشر فحسب، بل هي صراع دائم بين حيلةٍ متقدمة وبصيرةٍ مستيقظة.
ومن أدرك أن خصمه “سبق بليلة”، لن يُهزم إلا إن نام عن حيلته.