تطويق روسيا.. استراتيجية أمريكية وأجندة حرب.

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

بقلم.. أمجد إسماعيل الآغا

 

 

شكّل انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة بين أكبر قوتين عظميين، الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، رافعة لعهد جديد بزعامة الولايات المتحدة، وتغير النظام الدولي وتوازناته الاستراتيجية، والانتقال من نظام الثنائية القطبية إلى نظام أحادية القطبية وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة في العالم. في هذا العهد الجديد أصبح العالم تحت هيمنة الولايات المتحدة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، خاصة في عهد جورج بوش الابن الذي عزز من هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم، ولكن لم تكن هذه المرة هيمنة أيديولوجية كما كانت في عهد الحرب الباردة وإنما هيمنة حضارية.

التحولات في موازين القوى الدولية، تبعها تحولات في الفكر الاستراتيجي الناظم لمفاهيم النظام الدولي الجديد، فالولايات المتحدة التي هيمنت على العالم لعقود، ارتكزت على مفاهيم القوة العسكرية والسياسية والاقتصادية، لإبقاء العالم تحت هيمنتها، وقد عززت هذه الهيمنة عبر معادلات وُظفت في سياق استراتيجيتها تُجاه دول العالم، كـ أحداث الحادي عشر من أيلول.

لكن في المقابل لم تدم السيطرة الأمريكية على العالم طويلًا، لا سيما مع وصول فلاديمير بوتين إلى زعامة الكرملين، ففي الوقت الذي استلم به بوتين مقاليد السلطة في روسيا، بدأ بإعادة هيكلة القوة الروسية ليبدأ عصرًا روسيًا جديدًا، فعمل على صياغة سياسات اقتصادية نظرت إليها واشنطن بالكثير من التوجس والقلق، وقام بتحديث القوات المسلحة الروسية وتطوير الصناعة العسكرية الروسية، الأمر الذي قرأته واشنطن على أنه تهديد للقوة الأمريكية المنتشرة عبر العالم، وعمل بوتين أيضًا على استعادة سيطرة الدولة المتآكلة على قطاع الطاقة، مما ساعد في تدعيم سيطرة روسيا على عمليات تصدير الغاز للدول الأوروبية. وقد استفاد بوتين على مدار سنوات حكمه من ارتفاع أسعار النفط وهو ما وفر موارد مالية لدعم الصناعة وأبحاث الفضاء وتحسين مستويات المعيشية وتسديد الديون الخارجية البالغة 170 مليار دولار بشكل منتظم.

كل ما سبق، مكّن فلاديمير بوتين من تحقيق الاستقرار على الصعيدين الاقتصادي والسياسي في الشأن الداخلي في روسيا، فضلًا عن انشاء شبكة علاقات استراتيجية مع المحيط الحيوي لـ روسيا، عطفًا على تعزيز مُجمل الشراكات الإقليمية والدولية. بيد أنَّ واشنطن لا تزال تتبع استراتيجية الاحتواء الجغرافي لـ روسيا، حيث تم إعلان حلف الناتو في عام 2002 عن ضم أربعة دول من شرق أوروبا، وازداد الحلف تقاربًا مع أكرانيا، وبدأ الحلف في تنظيم مناورات مع القوات الأوكرانية على مقربة من القاعدة العسكرية الأوكرانية في ميناء “ستيغاستيول”.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انتقد النهج الأحادي من قبل الولايات المتحدة خلال مؤتمر ميونخ، وانتقد أيضًا نشر الدرع الصاروخي في بولندا والتشيك. وفي تصريحات أُخرى للرئيس بوتين فقد أوضح أنَّ النموذج الأحادي القطبية غير مقبول بالنسبة للعالم المعاصر ومستحيل التحقيق على الإطلاق للمجتمع الدولي ، لاسيما عندما تشهد الساحة الدولية المتغيرات السريعة نتيجة التطور الديناميكي لعدد كبير من الدول في العالم.

في المقابل، عملت موسكو على تشجيع دول شرق أوروبا وآسيا الوسطي لتقليص التعاون العسكري مع الولايات المتحدة. وفي عام 2005 تم انتهاء الوجود العسكري الامريكي في أوزبكستان وإغلاق القاعدة العسكرية الامريكية في قرغيزيا، واتجهت موسكو نحو التوسع خارج حدودها، وقد ظهرت أولى دلائل العودة الى التعددية القطبية من خلال مُعطيين:

الأول- قامت روسيا في عام 2014 بالعديد من العمليات في الأراضي الأوكرانية، حيث قام الجنود الروس بالسيطرة على مواقع استراتيجية وحيوية في شبه جزيرة القرم، بعد ذلك قامت روسيا بضم القرم إلى سيادتها.

الثاني- الحرب على سوريا، حيث قامت روسيا بدعم الدولة السورية، والوقوف في وجه الخطط الأمريكية من سوريا وانطلاقًا لعموم الشرق الأوسط.

ضمن ما سبق، يُمكننا النظر إلى التوترات المُستجدة في محيط الاتحاد الروسي، على أنها هندسة مراكز أزمات تُهدد الأمن الروسي، وتطويق خطير لا يُمكن للكرملين وسيده السكوت عنه، وبتوصيف بسيط يتضح لنا أن الهجمات المدعومة من تركيا من قبل أذربيجان ضد ناغورني قره باخ، أشعلت المنطقة بعد ما يقرب من ثلاثة عقود من الجمود النسبي ووقف إطلاق النار، وكذا زعزعة الاستقرار للوكاشينكو في بيلاروسيا، والسلوك الغريب للاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة لجهة تسمم المعارض الروسي نافالني، إضافة إلى الاحتجاجات الجماهيرية في قيرغيزستان، وهي جزء سابق من الاتحاد السوفيتي في آسيا الوسطى.

كل ذلك يحمل بصمات M- I6 البريطانية، ووكالة المخابرات الأمريكية، إضافة إلى مجموعة من المنظمات غير الحكومية والخاصة بتغير النظم. دليل ما سبق أن نمط الإجراءات الأنجلو- أمريكية ضد دول الأطراف الروسية الرئيسية، أو ضد المصالح الاقتصادية الروسية الاستراتيجية، كلها تأتي في نفس النطاق الزمني، والذي يُشير صراحة إلى نوع من الهجوم المنسق والمتزامن، وتأكيدًا لهذه المقاربة، فقد نشرت مؤسسة RAND الأمريكية، مجموعة من التوصيات المتعلقة بالسياسات تحت عنوان “توسيع روسيا: التنافس من أساس أفضل”. وأشاروا إلى أنهم يقصدون بتوسيع نطاق روسيا “إجراءات غير عنيفة يمكن أن تشدد على الجيش الروسي أو الاقتصاد الروسي أو الموقف السياسي للنظام في الداخل والخارج”.

ويناقش التقرير على وجه التحديد ما يسمونه “الإجراءات الجيوسياسية” لتوسيع نطاق روسيا. وتشمل هذه تقديم مساعدات لأوكرانيا، وتعزيز تغيير النظام في بيلاروسيا، واستغلال التوترات في جنوب القوقاز، فضلًا عن تقليل النفوذ الروسي في آسيا الوسطى. كما يتضمن مقترحات لإضعاف الاقتصاد الروسي من خلال تحدي قطاعي الغاز والنفط.

والجدير بالذكر أن هذه هي نفس مناطق الاضطرابات الجيوسياسية داخل مجال النفوذ الاستراتيجي لروسيا، وعلى وجه التحديد في القوقاز.

ختامًا، من الواضح أنَّ العديد من المشاكل الاستراتيجية الحالية لروسيا، يتم هندستها وتصميمها وتنسيقها عمداً من الغرب، وتحديداً من واشنطن ولندن، ومن الواضح أيضًا أنَّ الطريقة التي تتعامل بها روسيا مع هذا الأمر، بالإضافة إلى بعض التصعيد المستقبلي لضغوط الناتو، تمثل تحديًا جيوسياسيًا كبيرًا، الأمر الذي يشي بارتفاع حرارة التطورات في المحيط الجيوسياسي للاتحاد الروسي.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...