*الدكتور عبد الله شنفار
يخبرنا تاريخ الأمم عن مِحن، وما حدث لرجال عظماء؛ وحل بعلماء فلاسفة ومفكرين؛ من القتل والتنكيل والتعذيب والاتهام بالجنون والسجن…؛ ومحن أفظع وأبلغ إيلامًا للنفس؛ محن الاعتقال والأغلال والقهر والذل والمنفى المروع والتهميش والإبعاد والإقصاء من المشهد؛ والتحنيط والدفن والوأد وهم أحياءً تحت أطنان وقناطر مقنطرة من الحكرة والإذلال؛ ومن هولاء:
⁃ (سقراط) الذي أرغم على أن يشرب السم؛ فمات به..!
⁃ (أفلاطون) الذي منع من التدريس؛ وقيل أنه بيع في سوق النخاسة وبيع العبيد..!
⁃ (أرسطو) الذي مُنِع من بيع كتبه وأغلقت مكتبته أو (أكاديميته)..!
⁃ (ديكارت) الذي ظل آخر عمره مطاردًا وعاش بلا عنوان؛ لأنه كان مطلوب قتله.
⁃ (إيمانويل كانط) الذي منعت كتبه من التداول في الجامعات..!
تاريخ المِحن؛ هو تاريخ طويل ومليء بجرعات كبيرة من الأحقاد أكثر من الأمجاد!
يكفي أن تجرب تختار عَلمًا أو مفكرًا أو عالمًا من أعلام الأمة الإسلامية؛ سواء في العصر القديم أو العصر الحديث؛ وأكتب أمامه (مِحْنة فلان….) على أي محرك من محركات البحث في الشبكة المعلوماتية؛ وستكتشف ظاهرة الاغتيالات المادية والمعنوية ومختلف صور التعذيب النفسي، واستعداء المتجبرين والمفسدين في الأرض والعوام والسلطة؛ بسبب خلافات؛ ظاهرها علمي وباطنها أمراض نفسية؛ ومن هؤلاء ستجد:
* مِحْنَة الإمام مالك بن أنس؛
* ومِحْنَة الإمام الشافعي؛
* ومِحْنَة الإمام أحمد بن حنبل؛
* ومِحْنَة الإمام البخاري؛
* ومِحْنَة المعتمد ابن عباد؛
* (…) وغيرهم كُثر.
فالاغتيال المادي والمعنوي؛ طال أعلام الفكر والسياسة وقادة الفتوحات؛ من خلال تشويه الأفكار وعمليات الإساءة والإشاعة والافتراء؛ التي لم يسلم منها أحد. ومحاكم التفتيش والتقليب؛ التي نالت الجميع. والخطير في الأمر: أن كثيرًا ممن تعرضوا للأذى؛ مارسوا نفس الأسلوب ونفس النهج مع مُعارضيهم ومخالفيهم: (تشويه المقولات والأفكار والتحريض…). فكثيرون هم من يظلمون الناس؛ ويحسبون الله غافلًا عما يفعلون؛ يمارسون الظلم والطغيان والشطط والتعسف بشكل ممنهج؛ ومصادرة الحقوق وحريات الرأي والتعبير، وممارسة مختلف صور القمع، والاغتيالات المعنوية للآخرين، بتهميشهم ودفنهم تحت أطنان من النسيان والقهر والإبعاد؛ تُمارس عليهم نفس هذه الأساليب من طرف من هم أقوى وأعلى منهم درجة..!! ومن أشد الأمور غرابة على الإطلاق؛ أنهم يشتكون منها ليل نهار؛ دون أن ينتبهوا لما يقومون به تجاه غيرهم؛ لأخذ العبرة منه!
لم تنشأ لدينا بعد؛ ثقافة مناهضة لهذه الأساليب الارهابية النفسية القاتلة للضمير الإنساني والحاطَّة من الكرامة الوجودية للإنسان والحضارة؛ على الرغم من حجم الكارثة والنزيف الأخلاقي.
هناك خلل ما في ثقافتنا يمنع الاعتبار من الابتلاءات والتجارب المعاشة؛ وبدون الكشف المبكر له؛ سيتواصل نزيف الأخلاق والعقول.
فبمجتمعات يسود فيها الظلم والفساد؛ والقهر والاستبداد؛ ومقاومة شديدة جدًا للتحول والإصلاح والتغيير؛ يوجد فيها دائمًا ضحايا يدفعون ضريبة في لحظات وعصور الظلام؛ يكون ثمنها باهض جدًا؛ قد تصل إلى درجة تكلفهم أرواحهم..!
ومع ذلك؛ يقول سبحانه وتعالى في حق هؤلاء الرِجَالٌ؛ وهم بحجم نبي الله إبراهيم عليه السلام؛ لكن يتبعهم قِلَّة؛ بل أحيانًا يتبعهم واحد فقط؛ بل يكاد لا يعرفهم أحدًا..!: «وَكَأَيِّن من نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا؛ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ.»
هُم أُناسٌ: «مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. فَمِنْهُم من قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ؛ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا.»
ما أكثر ضحايا الربط الظرفي الخاطيء بالأحداث وتلفيق التهم ظلمًا؛ والإشاعات والتخوين. لذلك يقال أن التهم المرتبطة بفكر المؤامرة؛ غير قابلة للمرافعة أو الطعن أو الإلغاء؛ أو حتى إعادة النظر؛ من أجل إثبات البراءة منها؛ وتبقى عالقة في الفضاء إلى يَوْم الْقِيَامَةِ؛ حيث هناك فقط: (عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ.)
هناك؛ حيث إعادة تمثيل مشهد الجرائم جميعها بشكل دقيق جدًا من قبل الخالق عز وجل: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ؛ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.)
بعض الناس تستسهل الكلمات: مثل التخوين والخيانة والتنابز بالألقاب ونسج الحكايات والاتهامات والإشاعات ومختلف صور الكذب ونشر التفاهات؛ ولا تدرك أنه بقدرما تنطق بكلمات أو سلوك أو تصرف معين؛ فإننا تصنع التاريخ المليء بالكراهية وبالأحقاد.
فبكل كلمة ولو بسيطة؛ نصنع فجوة في جدار البيت الذي نسكن تحت سقفه جميعًا. ولا يستغرب على الجاهل من لا وعي له مثل ذلك. ولكن النخب الاجتماعية الواعية يقع عليها عبء ودور كبير في التوجيه وإعادة التأطير.
فالوطن واحد؛ وكل كلمة خيرة تبقى مهمة جدًا في التلاحم والتعايش والتكامل والتضامن وصنع تاريخ مليء بالفخر والأمجاد.
______
*المفكر المغربي





