المكر الانتخابي واستراتيجيات الفشل المُقَنَّع: تشريح الجدليّة بين الخطاب السياسي والفعل الجرمي

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 الدكتور عَبْدُ اللَّه شَنْفَار

 

 

* في تشريح اللعبة الانتخابيّة:
 ما الذي يدفع مرشحًا يائسًا في دائرة ريفية إلى التصويت لخصمه داخل المعزل الانتخابي؟ هل تمثل هذه اللحظة انزياحًا عن العقلانية السياسيّة، أم أنها تجسيد لأعمق أشكال المكر الاستراتيجي؟
هذا المشهد الذي يبدو هامشياً؛ يختزل إشكاليّة جوهريّة في الممارسة الديمقراطيّة: ذلك الفضاء الرمادي حيث تتداخل حرية التعبير مع التجريم القانوني، وتتقاطع الإستراتيجيات الفرديّة مع البنى المؤسسية.
 في هذه القراءة، نتجاوز السرديات التقليديّة لنقترب من تشريح الظاهرة الانتخابيّة من خلال عدسة مركبة، تجمع بين التحليل السوسيولوجي للممارسات المحليّة والمنظور القانوني للمؤسسات الوطنيّة، في محاولة لفك شفرة تلك العلاقة المعقدة بين الخطاب السياسي والفعل الجرمي.
– أولاً: سوسيولوجيا المكر: الفشل كاستراتيجية رمزية
 كيف تتحول الهزيمة الانتخابية من حدث سلبي إلى رأس مال سياسي؟ ينكشف هنا المنطق الخفي للممارسة السياسيّة: فالتصويت ضد الذات ليس فعلاً عبثياً، بل هو إستراتيجية لتحويل الهزيمة المادية إلى انتصار رمزي. يتحول المرشح الخاسر من لاعب في المعترك الانتخابي إلى راوٍ لسردية “المظلومية”، مستخدماً فعل التنازل عن صوته كدليل على “التزوير المزعوم”.
 هذه الآلية لا تعكس فقط أزمة الثقة في المؤسسات، بل تكشف عن تحول جوهري في الثقافة السياسية: فـ”اللاجدارة” تتحول إلى “بطولة”، والعجز الذاتي يتحول إلى مؤامرة خارجية. ألا يمثل هذا الانزياح خطورة على البنى الديمقراطية الناشئة، حين تتحول سردية الضحية إلى عملة سياسية تتجاوز قيمتها قيمة الإنجاز الفعلي؟
– ثانياً: التشريع والواقع: الفجوة بين النص والتطبيق
 إلى أي مدى يمكن للقانون أن يواكب تعقيدات الممارسة السياسية؟ تواجه الأنظمة الانتخابية – ومنها المغربية – معضلة ثلاثية الأبعاد: حماية حرية التعبير، وصون نزاهة العملية الانتخابية، والحفاظ على ثقة المواطن في المؤسسات.
فالقول بوجود تزوير، عندما يستند إلى معطيات ملموسة؛ يعد ممارسة مشروعة للمساءلة الديمقراطية، لكنه يتحول إلى فعل تجريمي عندما يتحول إلى اتهام عشوائي يفتقد للأدلة.
 تظهر هنا إشكالية التمييز بين “النقد المشروع” و”الافتراء المجرم”: فالكلمة نفسها قد تكون أداة للمساءلة أو سلاحاً للتشويه، والفارق الوحيد هو وجود الدليل. لكن هل يكفي النص القانوني لوحده لمواجهة هذه التحديات، أم أن المعضلة تتطلب تطوير آليات رقابية أكثر تعقيداً؟
– ثالثاً: المظلومية كرأسمال سياسي: من الضحية إلى المنتصر
 لماذا تنجح سردية المظلومية في اكتساب الشرعية الشعبية رغم ضعف أسسها الموضوعية؟
تكمن الإجابة في الطبيعة السيكوسياسية للمجتمعات في مرحلة التحول الديمقراطي، حيث تتفاعل الذاكرة الجمعية مع الإحباطات المعاصرة. فخطاب “المؤامرة” لا يقدم فقط مخرجا للفشل الفردي، بل يقدم إطاراً تفسيرياً بسيطاً لتعقيدات قد تكون عصية على الفهم.
 هنا تتحول المظلومية من حالة سلبية إلى رأسمال سياسي فعال، يسمح للفاشل انتخابياً بالعودة إلى الواجهة كـ”بطل مقاوم”. لكن هل يمكن لهذه الاستراتيجية أن تستمر إلى ما لا نهاية دون أن تقوض أسس النظام السياسي برمته؟
– رابعاً: الهندسة الانتخابية: بين الضرورة التقنية والوصاية السياسية
 أين يقع الحد الفاصل بين “تنظيم” العملية الانتخابية و”توجيه” نتائجها؟ تطرح الهندسة الانتخابية معضلة أخلاقيّة وقانونيّة: فمن ناحية، هي ضرورة تقنية لضمان استقرار الأنظمة السياسية وتمثيلية مكونات المجتمع، ومن ناحية أخرى، قد تتحول إلى أداة للهندسة السياسية عندما تتجاوز حداً معيناً.
 في التجربة المغربية، كما في غيرها من التجارب، تظهر هذه المعضلة بوضوح: كيف يمكن تصميم نظام انتخابي يحقق التوازن بين تمثيل الإرادة الشعبيّة وضمان الأمن والاستقرار والوجود والاستمرار والتنمية والعمران؟ وأي كلفة ديمقراطية ندفعها في سبيل تحقيق هذا الاستقرار؟
– خامساً: نحو منهجية متعددة المستويات لتحليل الظاهرة الانتخابية
 كيف يمكن تطوير أدوات تحليلية قادرة على استيعاب تعقيدات الظاهرة الانتخابية؟
يتطلب الفهم العميق تبني منهجيّة متعددة المستويات تجمع بين:
1. التحليل القانوني المؤسسي: دراسة الإطار القانوني وآليات الرقابة
2. المقاربة السوسيولوجية: تحليل الشبكات المحلية والعلاقات الزبونية
3. المنظور الإحصائي: رصد أنماط التصويت والشذوذ المحتمل
4. التحليل الخطابي: تفكيك سرديات المظلومية والشرعية
 لكن تبقى الإشكالية الأساسيّة: هل يمكن للباحث أن يحقق الحياد المطلق وهو يغوص في بحر من العلاقات والتمثلات والانحيازات الضمنية؟
* خلاصة: من ثقافة المكر إلى ثقافة المسؤولية
 إن الظاهرة التي بدأنا بها، حول ذلك المرشح الذي صوت لخصمه عندما استشعر انه خاسر لا محالة؛ وحتى أفراد عائلته صوتوا ضده عقاباً له؛ ليست مجرد حكاية هامشيّة، بل هي نموذج مصغر لأزمة ثقافة سياسيّة بأكملها.
فالمكر الانتخابي، رغم براعته التكتيكيّة، يعكس اختلالاً في العلاقة بين السياسي والمؤسسي، بين الفرد والدولة، بين الحق والواجب.
 السؤال المصيري الذي تتركنا أمامه هذه القراءة يتجاوز إشكالية التزوير من عدمه: أي مجتمع نريد أن نبني؟ مجتمعاً تزدهر فيه ثقافة الشك كوسيلة للتهرب من المسئوليّة، أم مجتمعاً تترسخ فيه ثقافة الثقة القائمة على المساءلة والشفافيّة؟ وأيهما أخطر على مستقبل الأمة: التزوير في الصناديق أم التزوير في الضمائر؟
 ففي النهاية، قد تكون أعظم خسارة ليست خسارة المقعد الانتخابي، بل خسارة القدرة على مواجهة الذات بصدق، والاعتراف بأن الهزيمة؛ هي أحياناً ليست مؤامرة، بل هي محصلة طبيعيّة للقصور الذاتي.

* نبذة موجزة حول الدكتور شَنْفَار عَبْدُ اللَّه؛
مفكّر وباحث مغربي متخصّص في العلوم القانونيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وناشط في الرصد والتحليل السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي والبيئي.
له عدة إسهامات فكريّة ومقالات تحليليّة ترصد التحوّلات المجتمعيّة وتقدّم قراءات نقديّة للتحديات الراهنة في المغرب والعالم العربي والإسلامي، من أبرز مؤلفاته: الإدارة المغربية ومتطلبات التنمية (2000). الفاعلون المحليّون والسياسات العموميّة المحليّة (2015)، والفاعلون في السياسات العموميّة الترابيّة (2020).

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...