عائشة بلحاج
كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية
ما تلا موجة الفرح بسقوط نظام الأسد من تداعيات وتفاعلات يثبت أن التعامل مع إرثِ الماضي، بعد فترة وجيزة من تحوّله إلى ماضٍ، عملية مفخّخة بالألغام التي لا تكترث بالنيات، وأفدحها الطائفية التي أجّجها النظام، ورعتها جهات أجنبية كثيرة.
ولعل الانتقام أوّل ما يخطر ببال الناس، بعد أي ثورة أو انتقال سياسي من مرحلة الاستبداد إلى مرحلة جديدة، لأنّهم خسروا بسبب أعوان النظام أرواحاً وبيوتاً ومستقبلاً. وحتى لو فرّ بعضهم، فكثيرون منهم لا يزالون هناك، فأي نظام مستبدّ يعتمد على شبكة متداخلة من أدوات السلطة، وعلى نظام متعدّد الطبقات من أجهزة الأمن وخلاياها، لإحكام السيطرة، والتغلغل في عمق فئات الشعب، لخدمة هدف رئيس هو بقاء نظام الحكم. وفي خلايا الحكم هذه، هناك مسؤولون وعسكريون وشرطة ومخبرون… ولا يمكن أن يفرّوا جميعاً.
لكن تجارب الانتقال الديمقراطي التي تلت سقوط أنظمة دموية في العالم، والتي نتمنّى أن تكون سورية نموذجاً منه، قامت على العدالة الانتقالية وليس على الانتقام. ورغم تداول مسألة المصالحة الوطنية بين أطراف سورية عدة، فإنها لا تحظى بإجماع. ولعلّ الخلاف ينبع من سوء فهمها؛ فهي لا تعني مسامحة المجرم، بل تقتضي تحقيق العدالة عبر محاكمة من ثبتت إدانتهم، بعيداً عن الثأر الشخصي، فانتقال السلطة من فئة مستبدّة إلى أخرى مُنتقِمة لا يؤدي إلا إلى ولادة استبداد دموي جديد.
وفي التجارب السابقة للعدالة الانتقالية، رأينا نماذجَ مختلفة للمصالحة الوطنية. ففي جنوب أفريقيا، نُقلت محاكمات أعوان النظام السابق عبر التلفزيون الوطني، فاستمع المواطنون إلى شهادات الضحايا ومعاناتهم. أمّا من لم تتوفّر أدلّة مادّية تدينهم بجرائم القتل أو التعذيب أو الاغتصاب، فقد اضطر كثير من الضحايا إلى تقبّل أنهم لن يُحاكموا أو يُسجنوا، لكن أصواتهم سُمعت، ووُثِّقت تجاربهم، في خطوة لإعادة الاعتبار إليهم، وتخفيف أحقاد الماضي.
في هذه المحاكمات العلنية تكشف شهادات الضحايا جرائمَ تشيب لها الرؤوس، ارتكبها مجرمون لا تخطر أفعالهم على بال الشيطان نفسه. فهؤلاء لا يطلب منهم النظام التفنّن في تعذيب الناس، بل حمايته، وهم يجتهدون في الباقي. في الأرجنتين، ما ارتكبه النظام العسكري شديد الفظاعة، من التعذيب والاعتقال السياسي إلى الإعدام بلا محاكمة، والاختفاء القسري لعدد هائل من الشباب والشابات. وما فعله نظام فرانكو بالإسبان، والحرب الأهلية التي اندلعت بسببه… هذا كلّه لم يمنع نشوء مجتمعات ديمقراطية قامت على تضحيات وعلى تنازلات من الأطراف كافّة التي ظلّت في الساحة بعد انهيار النظام السابق. سعياً إلى رأب الصدوع.
ربّما تختلف هذه التجارب، وقد لا تصل إلى ما فعله بشّار الأسد، الذي أضاف حدوداً جديدة في الأنظمة الدموية، لكنّها عائلة واحدة. كذلك، فالبدايات الجديدة لها قواعد عامّة، فلا بداية تقوم على الدم وتنتهي بشكل جيّد. فكم من أنظمة ديكتاتورية سقطت، لكن عمليات الانتقام التالية أدّت إلى انقسام المجتمع، وإلى الانتقال من عنف إلى آخر. وكلّ ما اختلف هو الجهة المعنّفة والجهة الضحية.
تواجه سورية الجديدة تحدّياً عاجلاً، وهو إعادة بناء أجهزة القضاء والشرطة، وتسريع إنشاء لجان العدالة الانتقالية، لإلقاء القبض على المجرمين بأسرع وقت، والمطالبة بتسليم الفارّين منهم من الدول المجاورة، لتخفيف حدّة الغضب الشعبي. مع الحرص على توفير شروط المحاكمة العادلة، وبدء عملية تعويض الضحايا، لا سيّما السجناء الذين لم يخرجوا من المعتقلات إلا بسقوط النظام، حتى يتمكّنوا من الاندماج في المجتمع، وعيش حياة كريمة قد لا تمحو آلام الماضي، لكنها تجعل الحاضر أقلّ قسوة. فأي دولة جديدة لا بد أن تقوم على إعادة بناء المجتمع جنباً إلى جنب مع مؤسّسات الدولة، لا أن تُؤجَّل هذه المهمة إلى ما بعد ترميم البنية الاقتصادية والاجتماعية. ورغم ارتباط هذه المجالات ببعضها، فإن الأولوية العاجلة هي احتواء الأثر الرجعي للانتهاكات، والحدّ من عمليات الانتقام الفردية، وتسريع تأسيس لجان المصالحة الوطنية. خاصّة أن العيون كثيرة على هذه التجربة، والأبواب التي تدخل منها الرّيح لا تنفكّ تنفتح.