جدلية التصحر الفكري والفقر التكنولوجي في المجتمعات التقليدية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

الدكتور شنفار عبدالله{*}

 

 

في مقاربة هذا الموضوع؛ ننطلق من بعض التساؤلات الجوهرية؛ هل كانت بالفعل بركة في الماضي؟ هل فعلًا ذهبت بذهاب أصحابها؟ أين ذهبت بركة الفقيه والسيد؟

في الستينات من القرن الماضي قال أحد الفقهاء أن البركة ذهب لما أصبحنا نتشبه بالنصارى في التحية ورد السلام بوضع اليد اليمنى على جبهة الرأس من الجهة اليمني!
وقال آخر أنها ذهبت لما أصبحنا ندعو إلى تعليم المرأة! حيث أمر وبهزة كتف مستهزئًا واشتط غضبًا، وبإشارة بعكازه الذي يتخذه متكأ؛ مشيرًا إلى الإمام الحداثي بالنزول من فوق المنبر لأن تعلم المرأة: “حــــــــــــــــــرام!” على حد زعمه. فما كان إلا أن استجاب الخطيب فورًا ونزل من فوق المنبر في إطار علاقة الشيخ بالمريد والعلاقة الأبوية السائدة في ذلك العهد؛ عهد الأستاذ عبدالله كنون والاستاذ علال الفاسي؛ ومقاومة الاحتلال والفكر الفرنسي؛ حيث الصرامة الذكورية. (على هامش قراءة في كتاب: النقد الذاتي للمرحوم علال الفاسي.)
إلى أن جاء ملك البلاد الذي أجلسها على منبر عال وقعد هو أرضًا؛ وهي تلقي درسًا من الدروس الحسنية الرمضانية.
هل ذلك العصر الذي عاش فيه أجدادنا؛ كان عصر وفرة أم ندرة؟ أين ذهبت الْبَرَكَةُ التي كانت في ذلك الزمان؟ وهل كانت توجد فعلًا بَرَكَه؟

يحكى أن رجلًا كان يتحاور مع إبراهيم بن أدهم رحمه الله، فقال له الرجل: ليس هناك شيء اسمه بركة!
فرد عليه إبراهيم بن أدهم بسؤال: أرأيت الكلاب والأغنام؟ قال الرجل: نعم؛ قال ابن أدهم: أيهما تنجب أكثر؟ قال الرجل: الكلاب تنجب إلىٰ سبعة جرواً؛ وأما الأغنام فتنجب إلىٰ ثلاثة وأربع!! قال ابن أدهم: لو نظرت حولك أيهما أكثر عددًا؟ قال الرجل: أرى الأغنام أكثر عددًا؛ قال ابن أدهم: أليس هي التي تذبح وتنتقص كل يوم ويقل عددها!؟ قال الرجل: نعم! قال ابن أدهم: هٰذه هي البركة! قال الرجل: ولماذا وكيف يكون ذلك؟! لماذا استحقت الأغنام البركة دون الكلاب؟
قال ابن أدهم: لأن الأغنام ترقد أول الليل وتقوم قبل الفجر؛ فتدرك وقت الرحمة فتنزل عليها البركة. وأما الكلاب فلا تكف عن النباح طوال الليل، فإذا دَنا وقت الفجر هجست ونامت، ويفوت عليها وقت الرحمه فتنزع منها البركة.” انتهىٰ كلام إبراهيم ابن أدهم رحمه الله.
في اعتقادي ثقافة الوفرة في كل شيء؛ هي ما يميز العصر الحالي.
وثقافة الندرة هي ما ميز العصر الماضي في جميع بلدان العالم؛ وليس في المغرب وحده.

من الناحية الاقتصادية والديمغرافية والسوسيو ثقافية والأيديولوجية وكمثال على ذلك، نجد تنظيم الري بعد تشييد سد المنصور الذهبي على ضفتي وادي درعه، حيث عقلنة وترشيد استعمال مياه الري؛ إذ في وقت كان فيه جريان المياه بشكل دائم بالوادي تدخلت الدولة فقامت بتقنينه؛ حيث عملت على تنظيم طلقات السد على فترات تناسب الموسم الفلاحي. هذا التنظيم فسره الناس بذهاب البركة حسب زعمهم.

ذهاب البركة هاته؛ أثر كثيرًا على بنية القرابة العائلية والقبلية وقواعد التحالف في صورته التقليدية؛ حيث تتميز البنيات الاجتماعية والعائلية في المجتمع التقليدي بالفقر التكنولوجي وفي الإنتاج ومصادر الثروة وآليات إنتاجها وتوزيعها بشكل عادل بين الأفراد والجماعات والمناطق؛ حيث تسود ثقافة الضرورة، وثقافة الندرة دون أن يكون هناك تضامن مؤسساتي؛ أي مجرد تكثيف في العلاقات الاجتماعية.

وأحيانا نجد التضامن والتماسك والكرم يأتي كرد فعل ضد ثقافة الوفرة في الإنتاج والمحاصيل والمخزون أو سيادة ثقافة الحداثة. «عندما (يشيط) الأكل، أخرجه صدقة في سبيل الله على الجيران أو الحارس الليلي”.
فهي مجرد ثقافة البذخ والاسراف والتبذير التي تظهر غالبًا في شهر رمضان.
الوفرة في وسائل التكنولوجيا الحديثة وفي اللباس والإنتاج وفي الأكل وفي كل شيء؛ يتميز بها العصر الحالي. أما الندرة في كل شيء؛ ففعلًا ذهبت مع أصحابها في ذلك العهد.

الفرق بين بركة الأجداد وبركة العصر الحالي يكمن فقط في كون كون البركة الحالية شبيهة بقطيع الكلاب التي ليس فيه بركة، وقطيع الأغنام التي أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول فيها: “صلوا في مرابضها، فإن فيها بركة”. أو فيما رواه أبو هريرة: “الغَنَمُ مِن دوَابِّ الجنَّةِ؛ فامسَحوا رَغَامَها، وصَلُّوا في مَرابِضِها.” وفي قوله تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ﴾ صدق الله رب العالمين.
وفي انتظار معجزة بركة فتح ليلة القدر التي هي سلام حتى مطلع الفجر؛ في الماضي؛ كان رجال الدين والمتصوفة؛ ينظرون إلى الطيران في الهواء؛ حيث تطوى لهم الطريق والمشي على الماء، وحديث النفس عن بعد التيوباتي (théopathie) وغيرها من التخيلات…
كانوا ينظرون لهذه الظواهر بمثابة كرامات. لكن في عصرنا الحالي؛ نجد هذه الأشياء بشكل وافر ومتضخم وزيادة أيضًا.
ففي كل يوم؛ نتيجة التقدم العلمي والتكنولوجي؛ يفتح باب القدر وتسير الحياة أسهل على الإنسان في مقارعته للطبيعة والتغلب على صعاب الحياة.

اكتساب المكانة والدور داخل المجتمعات؛ وبين الأمم والشعوب يكون بالفعل وبالدور؛ الذي يلعبه كل فرد من أفراد المجتمع؛ داخل البلد أو في المنتظم الدولي؛ من خلال القدرة والكفاءة؛ وليس عن طريق الإرث أو العظمة أو القِدم أو مصاريف الأبهة والبذخ والكرم الحاتمي؛ أثناء بعض المناسبات، أو التغني بالأمجاد الماضية وترديد عبارة؛ (خير أمة أخرجت للناس.) وبركة الأجداد.
تتميز البنيات الاجتماعية والعائلية في المجتمع التقليدي بالفقر التكنولوجي والتصحر الفكري؛ في الإنتاج ومصادر الثروة وآليات إنتاجها وتوزيعها بشكل عادل بين الأفراد والجماعات والمناطق؛ حيث تسود ثقافة الضرورة، وثقافة الندرة دون أن يكون هناك تضامن مؤسساتي ينظمها او يحكمها؛ أي مجرد تكثيف في العلاقات الاجتماعية.

وفي مقاربة ظاهرة التخلف والفقر والهشاشة بالمغرب؛ نستحضر مقتطفاً من كتاب: “صمود وسط الإعصار” للأستاذ عبدالله إبراهيم جاء فيه: “لعل أخطر اتهام يمكن أن يوجه ضد المغرب الكبير؛ هو أنه كان دائمًا بلدًا غنيًا وسكانه فقراء.
فلا يمكن أن يكون الفقر فيه حينئذ إلا عرضيًا، لا هيكليًا. وبالتالي، يجب اعتباره ناتجًا على الأخص عن سوء التدبير وسخف المؤسسات العامة والغلو الاقطاعي في الاستغلال؛ لا عن انعدام حقيقي لمادة الرفاه في البلاد، وقحالة جوهرية في مصادر الإنتاج المادي وعناصر التنمية”.

وبالتالي فاكتساب الدور أو المكانة داخل المجتمع أو داخل المنتظم الدولي؛ والتموقع بين صفوف الأمم وشعوب العالم؛ هو فَهْمُُ حديث؛ يتنافى و صور الفعل التقليدي في أنماط التفكير بالتمني وبحدوث معجزات والخضوع لاعتباط الطبيعة؛ ومختلف صور التدبير السائدة العشوائية والارتجالية في التسيير والبرمجة والتخطيط وفي وضع مختلف السياسات العامة والعمومية والقطاعية داخل بلد ما.

{*} كاتب ومفكر ومحلل استراتيجي

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...