تجربة حزب العدالة والتنمية بمعيار التواصي بالحق

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

 

محمد الحبيب الدكالي 

 

 

نشر السيد عبد الرزاق مقري رئيس “حركة مجتمع السلم” الجزائرية في الموقع الرسمي للحركة مقالة بتاريخ 10 سبتمبر 2021 حول انتكاسة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة، وراعتني طريقة تناوله في مقالته للموضوع وأراها قد وقعت في التهويل المبالغ فيه وفي نوع من السطحية، فكانت أقرب إلى الذّمّ السياسي غير المحمود منها إلى العمق في التحليل في موضوع مهم كهذا. كما راعتني لهجة الأستاذية التي خاطب بها الرأي العام وعامة الحركات والأحزاب “الإسلامية” * كما لو كانت السياقات التي تكتنف أوضاع تلك الأحزاب والحركات من نمط واحد (prototype) وهذا غير صحيح. وأسمح لنفسي أن أقول أنّ السيد مقري، كزعيم لحزب “إسلامي”، ليس في موقع من يحق له إعطاء الدروس حول الأداء السياسي لتلك الحركات والأحزاب، ويبدو أنه نسي سوابق التأييد للطغمة العسكرية ضد الجبهة الإسلامية للإنقاذ والمواقف المعادية لها والسكوت عن إدانة العسكر للمجازر الهمجية التي استهدفت قيادات الجبهة والشرائح الاجتماعية الواسعة التي صوّتت لصالحها في انتخابات 1989 خلال التسعينات السوداء التي ذهب ضحيتها أكثر من مائتي ألف قتيل، ثم الانغماس في اللعبة السياسية للرئيس السابق بوتفليقة التي ثار عليها الجزائريون سنة 2019. والسردية التي أوردها السيد مقري في مقالته التي وصف فيها ظروف الصعود السياسي ثم الانتكاس لحزب العدالة والتنمية ابتداء من سنة 2011، هي سردية معروفة ومتداولة في المغرب، فلا اكتشاف مثير إذا. ومع أن تلك السردية تبقى صحيحة في طابعها الوصفي إجمالا، إلا أنها لم تنفذ إلى الأسباب العميقة لتراجع الحزب كحزب “إسلامي” وبقيت المقالة دائرة حول قضايا السطح فقط.

إن انتكاسة حزب العدالة والتنمية بهذا الشكل هو حدث من العيار الثقيل ولا شك ضمن ما يعرف الآن بـظاهرة “الإسلام السياسي”، ولا ينفع في شيء تحليل خلفياته وأسبابه عبر مجرد استعراض وتفسير هذا الحدث أو ذاك الموقف، بل يتعين النّفاذ إلى الأسباب والعوامل الأعمق، وهذا ما سأحاول بسطه في هذه المقالة.

خلفيات وعوامل عامة مشتركة
ما حدث لحزب العدالة والتنمية لم يكن مجرّد نتيجة لأخطاء ما في التكتيك أو في المناورة السياسية أو في القدرة على اتخاذ مواقف معينة التي يجب النظر إليها ضمن سياقات ومعطيات توازن أو لا توازن القوى، بل هو في جوهره، كنموذج، انعكاس لحالة المأزق التاريخي الذي انتهت إليه عامة تلك الحركات والأحزاب بشكل عام ومتفاوت. يجب ألا ننسى، أن الحركات الإسلامية التي تحولت لاحقا إلى أحزاب، قد سعت منذ نشأتها إلى تحقيق مشروع يرمي، كهدف نهائي، إلى التغيير الجذري الشامل، بمرجعية الكتاب والسّنة وفقا لفهمها لهما، في البلدان العربية والإسلامية وفي الأمة ككل. وستجد تلك الحركات والأحزاب نفسها خلال سبعين أو ثمانين سنة تخوض تجارب مختلفة في المشاركة السياسية في سوريا (1954)، الأردن (1956)، لبنان (1972)، مصر (1976)، تونس (1989)، الجزائر (الجبهة الإسلامية للإنقاذ 1990) ، اليمن (1993)، المغرب (1997)، موريتانيا (؟)، بينما نجد حالات من الصدام المسلح (سوريا 1978-1982، الجماعة الإسلامية المقاتلة في ليبيا (1993-2000). لقد كان تصور تلك الحركات، بشكل عام، لمنهجية التغيير الجذري الشامل الذي كانت تتصوره بسيطا ويفترض أن نشر “الفكرة الإسلامية” باطراد في أوساط الشعب، بمتوالية هندسية، سيفضي بشكل آلي إلى إقامة “الخلافة” و”تطبيق الشريعة”، باعتبارهما الحل الأمثل للمعضلات الكبرى، أي التخلف والانقسامات والتبعية للاستعمار، عبر ثورة ما أو طريقة أخرى لم يفصح عنها أحد، كما كان قاسمها المشترك أنها اعتبرت نفسها الطليعة القائدة لمشروع التغيير الجذري الشامل، واعتمدت خيار التمكّن من المجتمع عبر الاستقطاب التنظيمي المركزي بدل التمكين له، وفي حالتي سوريا وليبيا كان الخيار هو حمل السلاح لإسقاط النظام باسم الجهاد.

ليس القصد من هذا الاستعراض السريع تقييم التجارب التاريخية ككل لهذه التنظيمات والأحزاب فهناك دراسات وكتابات ممتازة عدة حول تقييم تلك التجارب، ولكن المقصود هنا هو محاولة فهم تلك التجارب في المشاركة السياسية على ضوء “اكتشاف” قيادات تلك الحركات والأحزاب للحقيقة التي مفادها أن التغيير الجذري الشامل بهدف إقامة “الدولة الإسلامية” و”تطبيق الشريعة”، هو أعقد بما لا يقاس مما كانت تظن، وأن دون تحقيق مثل هذا التغيير خرط القتاد، لأن فهم تعقيدات الواقع بدأ يتكشف لديها على خلاف الصورة المبسطة التي كانت لدى القيادات والأتباع، وأن “الديموقراطية” التي اعتبرتها وقتا ما طرحا غربيا لكونها تقوم على أساس فكرة “حكم الشعب بالشعب” وأن هذا الشعار يتناقض مع مفهوم “الحاكمية لله” سبحانه، بل اعتبرها كثيرون كفرا. ومع أن حسن البنا أدرك بذكائه السياسي أهمية المشاركة السياسية التي رأى فيها مصلحة للشعب ولحركته دون عقد ثقافية عندما حاول التقدم لانتخابات 1942 ثم حيل بينه وبين ذلك تحت ضغوط الاحتلال الإنجليزي، إلا أن التحول المطرد للحركات والأحزاب “الإسلامية” لاحقا نحو المشاركة السياسية، كان سببها الأهم هو محاولة درء سطوة القمع الشنيع واسع النطاق الذي تعرضت له، ولمحاولة تصحيح الصورة السلبية التي كانت تروّجها عنها أجهزة الدعاية المحلية والغربية كتنظيمات “أصولية متطرفة” ترفض “الحداثة”، ولإقناع الأنظمة المستبدة والرأي العام المحلي والخارج بأنها سلمية النوايا وأن لا صحة لما يثار حولها من اتهامات. هذه بعض من أهم الخلفيات التي اكتنفت “التصالح” مع الديموقراطية والتخلي تدريجيا وربما ظاهريا أيضا عن فكرة “إقامة الدولة الإسلامية”. لكن خيال هذه الفكرة لا يزال يداعب المخيلات بأشكال ما، لأن التربية العقائدية للمنتمين والأتباع لدى هذه الحركات والأحزاب في “المحاضن التربوية”، ما زالت تقوم، بشكل عام، على نفس الأسس الفكرية والثقافية الأصلية كمفهوم “الولاء والبراء” و”تطبيق الشريعة” الغامض نوعا ما، والموقف من الانفتاح على تجارب الكسب الإنساني باعتبارها “ثقافة مستوردة” تناقض الشريعة، وهذا على سبيل المثال. وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام، وهي أن الأحزاب والحركات “الإسلامية” التي انخرطت في المشاركة السياسية، لم تعمل الكثير لبلورة استراتيجيات بالمعنى الحقيقي للمشاركة السياسية، وتحديد طبيعة ومديات أدوار العمل السياسي بصفتها حركة أو حزبا “إسلاميا”، بل لم تكن لها أصلا أية رؤية بعيدة المدى وواضحة للمشروع النهضة الوطنية وفقا لمرجعية مقاصد القرآن مع كل ما تتطلبه مثل هذه الرؤية من متطلبات خاصة من جهة، وجعل هذه الأدوار منسجمة ومكمّلة ومتكاملة مع أدوار العمل الثقافي والتربوي

والاجتماعي والإعلامي والتمكين للمجتمع عبر بناء القدرات على أوسع النطاقات الممكنة. لقد كان اهتمامها الرئيس هو التنظيم المركزي والامتداد الأفقي الذي استقطب الاهتمام والقدرات. لا توجد في الأدبيات السياسية للحركات والأحزاب الإسلامية، حسب ما أعلم، ولا أقصد هنا كتابات المفكرين المسلمين المستقلين، وثائق أو دراسات أو بحوث في تشخيص وتحليل الأوضاع السياسية في بلدانها، أو استشراف للمستقبل السياسي في بلدانها، أو تحليل لاستراتيجيات وأدوات التأثير لدى القوى الخارجية المهيمنة والموجّهة للأوضاع الداخلية، وما كان سائدا في تلك الأدبيات السياسية طروحات وشعارات إيديولوجية تبسّط قضايا كبيرة ومعقدة كقضية فلسطين مثلا (بالجهاد والحاجة إلى قائد مثل صلاح الدين) ، أو حل مشكلات السطح الكبيرة المزمنة كالفقر والتخلف العلمي (بالعودة إلى الإسلام وتطبيق الشريعة).. وبالتدريج أصبحت الدعوة إلى الله سبحانه بمعانيها ومقاصدها المبيّنة في الوحي، مجرد أداة للكسب التنظيمي، وسينتج عن هذا اختلالات عميقة في الرؤية الدعوية وفي النتائج على الأرض، وهذه حقيقة لا مراء فيها.

وقد أدّت مغريات المشاركة السياسية التي فتحت الأنظمة نافذتها بشكل محدود مدروس الأهداف والمديات إلى مشكلات كبيرة في السير العام، فلا الحركات والأحزاب “الإسلامية” اتجهت إلى إعادة النظر في المنطلقات والخيارات المتبعة في مشروعها الأصلي لأي “التغيير الجذري الشامل” عبر إقامة “الدولة الإسلامية”، واستمرت في اعتماد نفس تصوراتها وفهمها للواقع في سكونية ظاهرة، ولا هي استفادت من الدروس والعبر في تجاربها والاتجاه إلى إعادة صياغة الرؤية الدعوية الحضارية بالنظر البعيد بمنهجية راشدة محكمة، بما فيها تحديد وظائف وأهداف العمل السياسي بأدوات الاقتدار المتخصص. لا يمكن مع الارتجال ومنطق ردود الأفعال، من دون مثل هذه الرؤية وهذا الاقتدار إلا أن يفضي إلى أخطاء كبيرة وانسدادات، والشواهد متعددة.

إن أية محاولة لفهم نتائج تجربة هذه الحركة الإسلامية أو ذاك الحزب في المشاركة السياسية، لا يمكن القفز فيها على طبيعة تلك المنطلقات الفكرية الأساسية للحركات الإسلامية في علاقتها المنطقية بالنتائج التي تصل إليها في هذا البلد أو ذاك، فإذا كانت المنطلقات خاطئة أو قاصرة، ستكون المآلات حتما فاشلة في تحقيق الأهداف النهائية، هذا قانون.

خلفيات وعوامل ذاتية
تتميز تجربة حزبي العدالة والتنمية المغربي والنهضة التونسي عن مثيلتيهما لدى الحركات والأحزاب الإسلامية التي شاركت في الحياة السياسية في بلدانها، بمحاولتيهما لصياغة أرضية فكرية تجديدية للمشاركة السياسية، وهذا ما تعكسه كتابات راشد الغنوشي وأحمد الريسوني وعبد السلام ياسين وسعد الدين العثماني في قضايا تتعلق بالفقه والفكر السياسي الإسلامي المعاصر، واتجهت هذه الكتابات بشكل عام في اتجاه تأصيل وإعادة صياغة عدد من المفاهيم الأساسية حول الدولة والحكم والديموقراطية والحريات العامة من زوايا نظر متعددة ومتقاربة في الاستنتاجات، تطبعها العودة إلى مقاصد القرآن والواقعية في النظر، باستثناء عبد السلام ياسين الذي لم ير في فكرة المشاركة السياسية فائدة وغلبت على تفكيره فكرة الثورة متأثرا بالتجربة الإيرانية. كما تجب الإشارة إلى كتابات حسن الترابي في التجربة السودانية التي انتهت إلى ما انتهت إليه وهذا ما يتعذر الحديث عنه في هذه المقالة ويحتاج إلى اهتمام خاص.

وبالعودة إلى استكناه الأسباب والعوامل الحقيقية الأهم للمصير الذي صار إليه حزب العدالة والتنمية، من وجهة نظري، فهي أعمق مما تذهب إليه بعض التحليلات المتعجلة المتحاملة الآن ومنها مقالة السيد عيد الرزاق مقري المشار إليها آنفا :

العامل الأول يتمثل في السعي في وقت مبكّر جدا من عمر الحركة الوليدة (حركة التوحيد والإصلاح) حديثة التشكّل والتي انبثق منها الحزب، وراء إغراءات “قدّيدة السياسة” بعد ثلاث أو أربع سنوات فقط من الإعلان عن تأسيس الحركة، التي كانت في أصلها مزيجا من عدة أطراف نشأت بخلفيات فكرية وثقافية وتنظيمية مختلفة، قاسمها المشترك العام هو مفهوم “العمل الإسلامي” الذي تباينت وتفاوتت التصورات والفهومات حوله أصلا لدى هذه الأطراف في مراحل نشأتها وتطورها، لكن أغلبهم اقتنعوا بفكرة المشاركة السياسية لدواعي مختلفة وهذا ما عكسته بعض الأدبيات التي صدرت عن الحركة حول طبيعة فهمها للنظام السياسي افي المغرب وطبيعة علاقاتها، كحركة “إسلامية” معه. وقد أدى الانتقال السريع إلى العمل السياسي إلى جانب العمل الدعوي في ذلك الوقت المبكر من عمرها، إلى استنزاف كبير في قدرات وموارد الحركة الناشئة لتأسيس الحزب وصياغة أدبياته السياسية وهياكله التنظيمية، ليدخل الحزب في نسخته الأولى في معتركات السياسة عندما انخرطت القيادات الوازنة في الحركة في حزب آخر كان شبه ميّت، دون أن تكون لتلك القيادات أية تجارب أو خبرة باستثناء د. عبد الكريم الخطيب الذي سرعان ما سلم قيادة الحزب لشباب الحركة المتحمسين الذين غيروا اسم الحزب إلى “حزب العدالة والتنمية”.

وبعد تجربتين في المشاركة في الانتخابات البرلمانية والمحلية منذ تأسيس الحزب قذفت موجة الربيع العربي الحزب فجأة إلى صدارة نتائج انتخابات سنة 2011 البرلمانية والمحلية، وهو الحزب الذي لم يكن يطمع في أكثر من الاعتراف به كحزب صغير ضمن منظومة الأحزاب التي لها باع طويل في دهاليز السياسة المغربية. هكذا وصل الحزب إلى صدارة المشهد السياسي، ورغم التضخم السريع للكتلة الانتخابية المؤيدة و/أو المتعاطفة بعد انتخابات 2011 ثم انتخابات 2016، إلا أن هذا التضخم، الذي عكس شعبية حقيقية للحزب في مرحلة أولى، كان مؤقتا، وستكتشف قيادات الحزب أن الإصلاح السياسي ومحاربة الفساد يتجاوز بكثير قدرته على التأثير أو ممارسة أي نوع من التفاوض أو الضغط في بلد يحكمه نظام سياسي قوي جدا وعريق في سوس البلد. لقد دخل الحزب منذ البداية في مغامرة حقيقية مبعثها حسن النية والرغبة في المشاركة في خدمة الوطن، لكن قياداته لم تتفطّن إلى الطبيعة الخاصة للنظام السياسي في المغرب الذي أثبتت تجارب داخلية عدة، أن له طرائقه الخاصة في الحكم التي لا يمكن أن يتنازل عنها أو يسمح لأي كان المشاركة الفعلية في الحكم. لقد شكّل سوء التقدير هذا نقطة ضعف قاتلة منذ البداية وكان لزاما أن تكون نتائجه حتمية بالحساب المنطقي حتى على المدى المنظور.

العامل الثاني مرتبط بشكل طبيعي بالعامل الأول، ويتعلق بافتقار الحزب للروافع التي لا مناص منها لأي حزب يريد القيام بدور بان ومستدام في أي بلد. فمن أبجديات الممارسة السياسية أن يتوفر الحزب على دعامات وروافع معينة أهمها المؤسسات والهياكل الرديفة كالنقابات المهنية والعمالية جيدة الامتداد والتنظيم، ومؤسسات بحثية متخصصة مقتدرة لدعم القرار، ومنظومة إعلامية واصلة، ومصادر تمويلية منتظمة، وشبكة علاقات وتحالفات قطاعية داعمة، وأخيرا دعما سياسيا خارجيا ما. هذه هي المتطلبات العادية لعناصر القوة لأي حزب قادر على المنافسة السياسية الحقيقية والقدرة على التفاوض للحصول على أية نتائج حقيقية في الإصلاح السياسي أو مكافحة الفساد أو في التنمية الشاملة. لم يكن حزب العدالة والتنمية يتوفر على أي من هذه الروافع إلا بشكل محدود جدا لا يفي بمتطلبات القدرة على المساهمة تحقيق تطور جاد في إدارة الشأنين السياسي والعام، أو الوقوف في وجه سياسات معينة في قضايا كبيرة وحساسة، مما اضطره إلى الانجرار إلى سلسلة من التنازلات المتواصلة، ولم تكن له أية فرصة لتحقيق الشعار الذي رفعه الحزب بوعي ورشد “الإصلاح في ظل الاستقرار”، وهذا من بين ما يحسب له من حيث المبدإ على الأقل، وهو الشعار الذي سخر منه السيد مقري في مقالته، وهو يجهل، من بين ما يجهل عن المغرب، أن هذا التوجه هو في واقع الأمر قناعة ومحل إجماع لدى كل القوى السياسية بمن فيها اليسار بتلاوينه والنخب المثقفة وعامة المغاربة الذين يرفضون إدخال المغرب في أي نوع من الفوضى مهما كانت الذرائع.

العامل الثالث مرتبط بدوره هو الآخر بالعامل الثاني، ويتعلق بأحد المتطلبات الأساسية للممارسة السياسية الحزبية وهي ضرورة توفر الحزب على قاعدة معتبرة من الأطر عالية الكفاءة والخبراء المتخصصين، وما يتوفر عليه الحزب من هذا النوع من القيادات قليل جدا بالقياس إلى احتياجات أي حزب وهو يقود حكومة ما، وكمؤشر على الضعف الكبير للحزب في هذا المجال الحيوي، عجزه عن ترشيح أي من أطره لملئ مناصب المسؤولية الشاغرة في عديد من مؤسسات الدولة العمومية وشبه العمومية والمؤسسات المتخصصة خلال محطتي ترؤس الحزب للحكومة. وفي واقع الأمر، لم تهتم سائر الحركات والأحزاب “الإسلامية” بالاستثمار في إعداد الأطر عالية الكفاية في عديد التخصصات والمجالات التي لا يمكن الاستغناء عنها سواء في حالة المشاركة السياسية أو بدونها، وما توفر أو يتوفر منها لديها هو نتيجة جهود فردية استثنائية وليس نتيجة استراتيجية ما، لأن هناك قناعة مضمرة سادت لدى القيادات الأعلى في تلك الحركات والأحزاب مفادها “أننا نفهم الأمور ولسنا بحاجة إلى من يفهّمنا”. هذا أحد الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها الحركات والأحزاب “الإسلامية” وقد أهملت عامدة متعمدة فقه قاعدة “ولا ينبئك مثل خبير” (فاطر 14)، وهذا العامل هو أحد الأسباب الرئيسية لسوء التقدير وضمور التفكير الاستراتيجي لديها في محطات تاريخية عدة.

أما العامل الأخير، في تقديري، فيتعلق أيضا بسوء تقدير تأثيرات العامل الخارجي، ولا شك في أن قيادات الحزب كانت دائما مدركة لهذه الحقيقة، وتدرك أن الخارج يحصي على الحزب، بالدراسة الدقيقة، حركاته وسكناته وكل ما يصدر عنه، وسيكتشف مع مرور الوقت وهو في الحكومة خلال عشر سنوات، أن قدرات الخارج في التأثير والتوجيه هي أقوى بكثير مما كان يتصوره الحزب، وبالتالي لم يكن قادرا على فعل أي شيء حياله للأسباب والعوامل المذكورة جميعها.

وخلاصة القول أن الحزب، منذ تأسيسه، لم يحسب الحساب الصحيح لطبيعة الأوضاع ولا لقدراته الحقيقية على خوض لجج السياسة وهو بذلك الضعف، وربما تعود أحد أسباب سوء التقدير أيضا، إلى الانغلاق الثقافي الذي طبع ثقافة الحركات والأحزاب “الإسلامية”، وعدم اهتمام الحزب بدراسة تجارب العمل الحزبي في بلدان كثيرة، وكان بإمكانه، لو فعل، أن يكتشف أن المشاركة السياسية الحزبية صارت لها قواعد ومنهجيات ومتطلبات مهنية حقيقية منذ أمد بعيد، وأن أي حزب يريد أن يصل إلى الحكم أو يشارك فيه لا بد وأن يستوعب ويعمل بمقتضى تلك القواعد والمنهجيات والمتطلبات وأن يكون قادرا على تكييفها بما يناسب أوضاعه والسياقات التي يعمل فيها.

بقيت هناك ملاحظة أخيرة تتعلق بتقييم أداء الحزب وقد ترأس حكومتين: هذا موضوع يحتاج إلى دراسة جادة، فليس من المعقول الحكم على الأداء والنتائج بمنطق عدمي بالزعم بأن الحزب لم يحقق شيئا، ولا يفيد في شيء تضخيم الإنجازات بطريقة عاطفية. تقييم أداء وإنجازات وإخفاقات حزب العدالة والتنمية يتطلب مستويين من الدراسة : الأول بمعايير التفكير والتخطيط الاستراتيجي فيما يتعلق بالأهداف والتوجهات والسياسات وقدرات التفاوض والتأثير، ثانيهما يتعلق بالمجالات القطاعية، كل قطاع على حدة، بمنهجيات وأدوات التقييم المهني لتقدير النتائج بأكبر قدر من الدقة، هذا إذا كنا نريد أن نكون عادلين منصفين. وبشكل عام، لا أرى أن انتكاسة الحزب في الانتخابات الأخيرة أكثر من كونها اجتهادات وتجربة رغم فشلها، وهي ليست نهاية لمشروع النهضة الذي يتجاوز قدرات الحركات والأحزاب الإسلامية إلى دور ومسؤولية الشعوب والمجتمعات التي يزال الوهن غالبا عليها، وهو ما يستدعي إعادة النظر في كثير من الرؤى والمسلّمات التي سادت لديها لعقود، وإعادة النظر في منهج استكمال بناء مشروع النهضة. وبالنسبة لقيادات حزب العدالة والتنمية فهي مطالبة بالمراجعات العميقة بأدوات العمق وليس السطح، وأحسب أنها قادرة على ذلك إن أرادت.

* استعملت كلمة “الإسلاميين” بين مزدوجتين لكونها ليست مصطلحا معرّفا، بل هي صفة تطلق دون دلالة محدّدة أو تعريف حسب الأصول على خليط من الاتجاهات التنظيمية وغير التنظيمية التي تتبنى مفاهيم مختلفة عن الإسلام.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...