حينما نادت المعارضة العام 1965 باعتبار (الدوار) و(الدشر) جماعة ترابية وسلطة تنظيمية وشخصية اعتبارية

إيطاليا تلغراف

 

 

 

 

*الدكتور شنفار عبدالله

 

 

على هامش اعتبار الدوار أو المدشر في ظل النموذج التنموي الحالي؛ بمثابة الخلية الاجتماعية الصغرى؛ كمنطلق للسياسة التنموية المجالية. وأيضًا الإطار الاجتماعي الأول الملائم للحياة اليومية لإنسان القرى والبوادي؛ بحيث لم يعد مجرد مكان اجتماعي واقتصادي وثقافي متميزة لتجمعات سكانية، بل أصبح كذلك مؤسسة قانونية معترفًا بها على المستوى الأيديولوجي للدولة؛ مع ضمان حقوق وواجبات الجميع نحو الوحدات الكلية، في إطار السياسات العامة والعمومية والقطاعية؛ أي التمتع بحقوق وواجبات كل عضو وأسرة؛ تجاه الآخرين حسب السن والجنس؛ والمتطلبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية في تدبير اليومي.

الاعتراف بمكانة هذه الوحدة الترابية الأساسية كفضاء يتم تحديده وتهيئته، مع الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات سوسيولوجيا هذا الإنسان المقهور مع اليومي؛ و ديناميات التنمية بهذه المناطق؛ وذلك من خلال إنشاء مرصد متخصصًا في جمع المعطيات على مستوى كل دوار ومدشر عبر عمليات التشخيص التشاركي ومختلف المقاربات الاستشارية؛ من أجل التوفر على بنك معلومات موثوقة؛ لتنوير اختيارات مختلف السياسات العمومية المراد تنفيذها على المستوى المحلي.
ويتعلق الأمــر أيضًا ببلورة آليات الديمقراطية التشاركية حول “الدوار” وجعلــه المكان الأول والإطار المرجعي لتفويض مختلف المرافق العمومية للساكنة.

ومن أجل بلورة هذا المشروع؛ تضمن تقرير لجنة النموذج التنموي؛ توصية بإحداث لجن على مستوى الجماعة تضم ممثلين عن مختلف الدواوير والمداشر لضمان تمفصل منطقي وحيوي بيــن أماكن العيش ومستويات اللامركزية الادارية.
هذا؛ ومن شأن هذه الآلية في تدبير المتطلبات اليومية لإنسان (الدوار)؛ أن تتيح خلق إطار ملائم لتشجيع وتحديد مبادرات ومشاريع صاعدة من طرف فعاليات المجتمع المدني المحلي، تستجيب لمختلف التحديات والقضايا الاجتماعية الترابية.
وبالموازاة مع هذا؛ خلصن اللجنة إلى توصيات بضرورة إعادة النظر والتفكير فــي توزيع الخدمات العمومية بالعالم القروي عبر استثمار (الدائرة) باعتبارها حلقة وسيطة بين الجماعة والإقليم. وذلك، بالارتقــاء بمكانتها مــن مجرد وحدة ادارية، (كصندوق بريد لتدبير المراسلات الإدارية) كما هو عليه الحال الآن، إلى بنية للتنسيق قايمة بذاتها لتصبح الدائرة وحدة إدارية للقرب ونقطة التقاء في جدلية الاعتماد المتبادل في معادلة المجال الحضري والمجال القروي.

فمركز الدائرة هي عبارة عن مدن صغيرة يمكن أن تشكل رأسًا لشبكة فعالــة لتقديم الخدمات العمومية الموجهة للعالم القروي؛ وستمكن من تجديد مهــام “الدوائر” كوحدات للتنسيق مــن تكريس التمفصلات المنطقية بين المدن الكبرى والصغرى والمراكز الناشئة والجماعات ذات الطابــع القروي؛ مــن أجل تحقيق التنمية المندمجة والمستدامة وتحقيق وسائل العيش المستدامة.

وهنا لابد من استحضار التاريخ والنقاش الذي كان محور جلسات مجلس المستشارين في الستينيات، حيث الشجاعة والجرأة في تناول القضايا. هذا النقاش كان ينحو في اتجاه أن يتم إقرار ديمقراطية تقوم على أساس التدبير المحلي لشؤون السكان بأنفسهم من خلال تقسيم ترابي يتم تعريفه وتحديده وتنميطه من منطلق أساسي هو: أن كل دوار أو مدشر أو حي يجب أن يشكل، ويكون موضوع جماعة ترابية محلية، تضم مجموعة من السكان لهم حدود معروفة ومضبوطة، ولهم خصوصيات ومميزات، وقيم اجتماعية وعادات وتقاليد وأعراف وأمجاد، أفرزتها الخصوصيات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، تميزهم عن الآخرين، وينتخبون فئة من الناس يشكلون مجلسًا محليًا يتولى نيابة عنهم تدبير شؤونهم ومتطلباتهم وقضاياهم وتحقيق وسائل التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؛ والعيش المستدام؛ في حدود المتاح من الموارد المالية والبشرية؛ وفي تناغم مع السياسة العامة للدولة.

وهي نفس الفلسفة التي تم تفريغها في إطار دستور العام 2011؛ حيت نص على إن الجماعات الترابية، هي أشخاص اعتبارية، خاضعة للقانون العام، تسير شؤونها بكيفية ديمقراطية؛ وتتوفر في مجالات اختصاصاتها، وداخل دائرتها الترابية، على سلطة تنظيمية لممارسة صلاحياتها، كما تتوفر كذلك على موارد مالية ذاتية، وموارد مالية مرصودة من قبل الدولة. وكل اختصاص تنقله الدولة إلى الجماعات الترابية يكون مقترنًا بتحويل الموارد المطابقة له.

لكن هذا التصور الذي طالبت به أحزاب المعارضة آنذاك؛ لم يتم الأخذ به، حيث جاء التقطيع الإداري ليفرز وحدات إدارية لا علاقة لها بالخصوصيات الطبيعة والبشرية والاقتصادية والاجتماعية والتاريخية، ولا يراعي حتى التقاليد والعادات والأعراف لهذه الجماعة أو تلك؛ حيث تم تطبيق قانون موحد وهياكل إدارية تسيير حسب نفس المتوالية الحسابية والهندسية تأخذ بعين الاعتبار المراهنة على مصالح الأعيان، كمصدر لاستمرار مشروعية الدولة من خلال إقرار وسيلة وجود تقليدية متجاوزة تفرز خريطة سياسية تقليدية غير قابلة للانفتاح والتطور، حيث سيطرة الجهلة ودوي المال والجاه والنفوذ وإقصاء أناس أكفاء وفئة الشباب المثقف وتهميشهم وإبعادهم من المشهد السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي.

فأصبح مفهوم المحلي والإقليمي والجهوي؛ هو ما تمليه السلطة المركزية من فوق، وما تصبغ به من صبغة للمؤسسات؛ ويعني صياغة عمودية وليست صياغة أفقية.

تطور علاقة الدولة بالمحلي؛
يتطلب الحديث عن المركزي عند استحضار المحيط أو المحلي.
فمبدأ السيادة المتضمن بالدساتير من خلال التنصيص على أن السيادة للشعب يمارسها من خلال مؤسسات تمثيلية تنبثق عن الانتخاب والاستفتاء؛ يفتح المجال للغموض في ارتباطه بمفهوم الدولة.
لن ندخل في الجدال والنظريات الفقهية لكل من (روسو) و(دي فيرجي)… وغيره التي تناولت السيادة الوطنية كما درسنا في سنوات الإجازة في كليات الحقوق؛ ولكن سنخضع المفهوم لتحليل آخر لارتباط مفهوم الدولة والسيادة بالتدبير المحلي لمعرفة العلاقة بين المركزي والمحلي في ظل تنامي دور هذا الأخير.
فماذا نقصد بهذا المحلي في ارتباطه بالدولة أو المركزي؟ وكيف تطورت علاقة الدولة بالمحلي والاقليمي والجهوي؟ وكيف تنعكس طبيعة الدولة على السياسات العمومية المحلية؟

إن تواجد الدولة لتغطية جميع القطاعات، اقتصادية كانت أو اجتماعية، فرض عليها لزامًا بعد عهد الاستعمار مباشرة تطوير الفرد والمجتمع وكذا ضبط ومحاولة القضاء على التنافر من خلال العمل على ربط علاقة تستهدف خدمته ونماءه بالأساس.
هذا؛ ومن خصوصيات المجتمعات الأكثر تخلفًا، طبيعة التركيبة الاجتماعية المتنافرة، والمغرب لا يخرج عن هذه الخصوصية، إلا أنه مع ذلك يتميز بنوع من التعايش التنازعي الذي يبقى فضاء مفتوحًا للتطور والتجاوز.

فهل استطاعت الدولة تجاوز إيقاف الصيرورة التاريخية عند حدود مؤسسة تقليدية؛ ألا وهي القبيلة؟ وبمعنى آخر ألم يحن الوقت لتجاوز تقوية وسيلة وجود متجاوزة؟ أم أنها بالعكس من ذلك تعمل على تنميتها كآلية أخرى لضبط “النسق” الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي؟

فالدولة بصفة عامة تعاني من قضايا وأزمات في سعيها لتطوير وتغيير أفراد مجتمعاتها. ومن مظاهر هذه الأزمات يمكن استحضار بعض الأبعاد كما يلي:

أولًا: أزمة هوية، بحيث من خلال قراءة بسيطة وسريعة في الثقافة الشفوية الشعبية نجد سيادة مفاهيم تحيل إلى التنافر من مثل هذه المفاهيم القدحية: لعروبي نسبة للعروبية، الشلح، نسبة للشلوح، الدراوي، نسبة إلى المتحدرين من وادي درعه، الريفي نسبة لمنطقة الريف في الشمال، الدكالي نسبة لدكالة بمنطقة الجديدة؛ الصحراوي نسبة للصحراء؛ إلى غير ذلك من التنضيدات الاجتماعية المتنافرة.

ثانيًا: أزمة مشروعيات؛ وتتجلى في صعوبة، بل غياب الحوار بين الدولة- الإدارة ومكونات فئات المجتمع والأكثر من ذلك، منع و عدم القدرة على إنتاج مجتمع مدني أو حتى تركه يستمر إن كانت هناك إرهاصات لوجوده؛ مما يفضي إلى التساؤل عن شكل الدولة الوطنية التي نريد، هل هي الدولة الجهوية؟ أم الدولة / القبيلة؟ مما أدى إلى أزمة مشاركة، أي غياب مشاركة جميع الفاعلين وفئات المجتمع وسيادة سياسة الإقصاء والتهميش في عملية صنع القرار الذي يخص السياسات العامة والعمومية والقطاعية.

ثالثًا: أزمة توزيع، أي سوء توزيع الساكنة على المستوى المجالي أو الترابي؛ حيث حدة التركيز للساكنة النشيطة بالمناطق الصناعية؛ مما أدى إلى تفاقم الهجرة من البوادي والقرى والأرياف نحو المدن الكبرى وما يترتب على ذلك من نتائج كأحزمة دور الصفيح والانحراف بشتى صوره والارتزاق والتجارة المعاشية من: (الباعة المتجولين، حرف بسيطة، ماسحي الاحذية وإصلاح وبيع الهاتف والحاسوب والتلفاز وسيادة ثقافة الدراويش والتسول والعمل كسال وطيايابات داخل الحمامات التقليدية؛ وبيع الوجبات السريعة دون توفر الاحتياطات الصحية وغيرها من الخدمات البسيطة المتنقلة والغير مضمونة الاستمرارية وغيرها).

من نتائج هذه الأزمات أن أدت إلى تعقد فهم وضعية المجتمع التنضيدي وتركيبته الاجتماعية. وبلورة مفهوم المجتمع التنضيدي أو التركيبي أو التمازجي أو التنافري؛ هي مقولة قال بها كل من الباحثين: بول بسكون ونجيب بودربالة في بحثهما عن مصادر إنتاج القاعدة القانونية في المغرب.

ففي بحث (بول بسكون) في تركيبة المجتمع المغربي، ذهب إلى وجود فسيفساء وتراتبية اجتماعية. حيث يرى أنه على الرغم من وجود منطق داخلي يوحد هذه التراتبية؛ إلا أنه في كثير من الأحيان يظهر على السطح التنافر الاجتماعي، خاصة بمناسبة الانتخابات، حيث بينت الدراسات حول سوسيولوجيا الانتخابات بالمغرب، والتعايش التنازعي وذوبان الفرد داخل الجماعة والقبيلة، وما يصاحب ذلك من نزاعات وصراعات وتطاحنات؛ بمناسبة الحملات الانتخابية وتأثيرها على البنى الاجتماعية والثقافية والدينية.

لقد صدق جلالة الملك محمد السادس لما وصف مناسبة الانتخابات؛ وكأنه يوم القيامة.
نستنتج في الأخير؛ أن الثروة القومية التي يتوفر عليها المغرب؛ من تعدد للثقافات واللغات والقيم وتنوع الفنون والفلكلور والطبيعة… وغيرها؛ هنا في ظل هذا التنضيد الاجتماعي والثقافي والسياسي والاقتصادي التمازجي؛ تكمن قوة تَمْغَرْبِيتْ في خلق فضاء مفتوح قابل للتطور وقادر على التغلب ومواجهة التحديات.

*المفكر والراصد المغربي.

إيطاليا تلغراف


شاهد أيضا
تعليقات
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء اصحابها وليس عن رأي جريدة إيطاليا تلغراف.
تعليقات الزوار
Loading...