د.محمد الدكالي
الجميع يعرف أن الجامعة العربية قد صارت منذ عقود إلى موت سريري، وليست لها أية فاعلية أو دور جاد في “خدمة القضايا العربية المشتركة” و”تعزيز الصف العربي والعمل العربي المشترك”، فقد بقيت مبادئها الأخلاقية حبرا على ورق، والأمثلة كثيرة على هذا الموت السريري.
بيان مؤتمر جدة وهو الثلاثون في تاريخ الجامعة العربية، جاء على نفس شاكلة سابقيه ولم تشذ الجامعة المنقسمة دوما عن القاعدة. البند المتعلق بإعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية يقابل بكثير من الصخب الإعلامي وباحتفائية كبيرة من طرف أوساط إعلامية خاصة تلك المحسوبة على إيران والنظام السوري، بل تتحدث قناة الميادين مثلا عن “إعادة الجامعة العربية إلى سوريا”! إعادة الاعتبار إلى النظام الشمولي الطائفي الدموي يؤشر مرة أخرى إلى أن النظام الرسمي العربي ما زال يحتقر شعوبه ولا يعتبرها جديرة بالحرية والكرامة والعدل.
الموضوع جدير فعلا بالتأمل والتحليل ولكن ليس عبر الشعارات، بل على ضوء عدة حقائق على الأرض لفهم أفضل لعدد من التحولات في رقعة الشطرنج العربية ومن بينها إعادة الاعتبار رسميا للنظام الدموي السوري. واللافت للانتباه هنا أن أمير قطر هو الوحيد من بين “القادة العرب” الذي رفض مقابلة أو مصافحة رئيس النظام السوري وغادر قاعة الاجتماعات عائدا إلى بلده عندما بدأ بشار خطابه في المؤتمر. لكن قبل أي تحليل، يقفز تساؤل غريب إلى الذهن، لكنه منطقي تماما وهو: ما الذي يجعل زعماء أنظمة عربية طابعها المشترك هو الحكم المطلق ومتميزة في سياساتها القمعية لشعوبها، ومع ما بينها من تناقضات وعداوات مزمنة، تتفق على إعادة الاعتبار للنظام السوري؟ ما الذي يجمع بين الأنظمة في مصر وتونس والسعودية والإمارات والأردن والعراق والجزائر والمغرب حتى تتفق على اتخاذ هذا القرار الصادم؟
أهداف الأطراف العربية والإقليمية والدولية ذات العلاقة بهذا الحدث ليست واحدة، فالموضوع معقد بقدر تعقد الأوضاع في المنطقتين العربية والإقليمية، ومقولة “تعزيز الصف العربي المشترك” هو شعار لا أثر له في الواقع، فعوامل التمزق والتناقضات الداخلية والخارجية، في المصالح والسياسات، ما تزال عميقة بين الدول العربية، ولا تزال ظاهرة الاستقطابات وتغيير التحالفات بين الدول العربية في قضايا عديدة هي السمة الأبرز في مشهد العلاقات العربية – العربية والعربية -الإقليمية. هذه سمات قديمة طبعت ولا نزال واقع العلاقات بين الدول العربية منذ ظهورها الحديث بعد سقوط الدولة العثمانية ومعاهدة سايكس بيكو. فأين إذا يتعين البحث عن خلفيات القرار المذكور؟ يجب استحضار سياقات المصالح الخاصة للأنظمة العربية وعلى مستوى مصالح الأطراف الإقليمية والدولية ذات العلاقة.
الخلفيات الإقليمية
هذه العودة وثيقة الصلة، دون شك، بالتفاهمات السرية التي توصلت إليها إيران والسعودية في شهر أبريل الماضي، وقد بدأت بعض مخرجاتها تترى في أكثر من مجال وعلى أكثر من مستوى. لا يمكن أن يكون توقف قصف مواقع حيوية في السعودية (أرامكو، المطارات..) بالصواريخ والطائرات المسيرة من طرف الحوثيين أو انطلاقا من العراق بدون ثمن. لقد وجدت السعودية نفسها في موقف محرج جدا داخليا وأمام الخارج دون أن تتمكن من فعل أي شيء، واصبح الحرج أكبر مع خذلان وإهانة الحليف الأمريكي الذي راهنت عليه الرياض لعقود طويلة. والاستنتاج المنطقي لقرار السعودية بإعادة العلاقات مع النظام السوري وإعادة تأهيله عربيا لا يمكن إلا أن يكون أحد نتائج التفاهمات السعودية الإيرانية، مما نراه من وقف لإطلاق النار في اليمن وهي الحرب التي استنزفت السعودية، وتوقف هجمات الحوثيين عليها، وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع إيران وتفاهمات أخرى لم يكشف عنها النقاب بعد..
لقد مهدت الاستراتيجية الإيرانية بذكاء لهذه الخطوة بالضغط على حركة حماس لإعادة علاقاتها مع النظام السوري في سبتمبر 2022، وهو الذي طرد قيادتها من دمشق في يناير 2012 لمجرد رفضها إعلان تأييدها للنظام في قمعه الوحشي للسوريين، بل لم يكتف بطرد قيادة حماس بل قصف بالطائرات والبراميل المتفجرة والمدفعية مخيم اليرموك في ديسمبر 2012، وهو حي في دمشق يضم أكبر نسبة من اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، فدمرت نسبة كبيرة منه تدميرا كاملا وقتل المئات بالقصف والتعذيب حتى الموت للرجال والنساء والاغتصاب وتشريد الآلاف من بيوتهم، ثم عادت ميليشيا النظام في مايو 2018 لنهب وتخريب ما تبقى من بيوت في المخيم، ولا تزال آلاف من الأسر الفلسطينية التي اضطرت إلى النزوح واللجوء مشردة إلى الآن، مثل ما حدث للجالية الفلسطينية في العراق على يد جهات موالية لإيران بعد احتلال أمريكا للعراق سنة 2003 عندما تعرضوا للاعتداءات والطرد من بيوتهم في بغداد وهذا ما رأيته بعيني رأسي أثناء زيارتين لي للعراق في نفس السنة، ولا يزال فلسطينيو العراق مشردين إلى الآن (تنظر تقارير الأمم المتحدة حول هذه المأساة المسكوت عنها).
لم تتم إعادة سوريا كدولة إلى الجامعة العربية، بل تم إعادة الاعتبار للنظام الطائفي الشمولي الدموي، لأن معايير التمييز بين أية دولة بالمعنى الدستوري والحقوقي، والنظام السياسي، منعدمة في الحالة السورية، ومن أهم المراجع حول هذه الظاهرة كتاب “سوريا، الدولة المتوحشة” (Syrie, l’etat barbarie) لعالم الاجتماع الفرنسي والباحث في المركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS) ميشيل سورا (Michel Seurat) الذي رابط مع المقاومة الفلسطينية خلال حصار العدو الصهيوني لبيروت سنة 1982 (اختطف ثم قتل سنة 1986 من طرف جماعة “الجهاد الإسلامي” – حزب الله لاحقا – وهو في سن 38 *. كذلك كتاب نيكولاس فان دام (Nicolas Van Dam) الدبلوماسي والباحث الهولندي ” سوريا: الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة 1961-1994″.**
لا يمكن النظر إلى إعادة بشار الأسد إلى مقاعد الجامعة العربية إلا باعتباره كسبا سياسيا هاما للسياسات الإيرانية في المشرق العربي، ولا علاقة له بأكذوبة “وحدة الصف العربي وتعزيز العمل العربي المشترك” التي لم تتحقق قط في تاريخ الجامعة العربية.
أما الأبعاد الدولية للموضوع فهي تهم روسيا وأمريكا وإسرائيل، وكل هذه الأطراف مرتاحة لهذه العودة وتصب في مصالحها. كيف؟
المصالح الدولية في الصفقة
روسيا يهمها إعادة الاعتبار للنظام السوري كونه يشكل دعما ضمنيا “لشرعية” وجدودها العسكري في سوريا على البحر المتوسط وهو حلم قديم للروس. كذلك سيتيح للروس أوراقا إضافية لمزيد من التدخل في المسألة السورية على المستوى الإقليمي مع إيران وتركيا لاستدامة وجودها العسكري في سوريا. وفي جميع الحالات ستعمل روسيا في اتجاه بعض الحلول “الإنسانية” لأوضاع الشعب السوري الذي تشرد نصفه في الخارج وفي الداخل السوري، ولا يمكن تصور أي دعم منها لإعادة ملايين السوريين إلى وطنهم وإعادة بناء الدولة السورية على أسس ديموقراطية، لأن الشعب العربي السوري لا يمكن أن يقبل أبدا بوجود عسكري لا لروسيا ولا لأمريكا ولا لإيران ولا لتركيا فوق أرض وطنه.
أمريكا بدورها يهمها بل حريصة على بقاء النظام الدموي في سوريا، ولا قيمة فعليا لمواقفها المعلنة من النظام السوري، فقد كانت دائما مترعة بالنفاق، فوجودها العسكري في جنوب سويا (قاعدة التّنف على الحدود السورية الأردنية) وفي شمال شرق سوريا لدعم الانفصاليين الأكراد كما يستهدفون تركيا بالسلاح والمال والدعم الاستخباري، ليس مصدرا لأي تهديد من طرف النظام السوري. كما لا يمكننا أن ننسى مواقف الإدارات الأمريكية منذ عهد أوباما الذي رفع سيف “الخطوط الحمراء” في وجه النظام الدموي إذا استخدم الأسلحة الكيماوية ضد السوريين، وهو ما أقدم عليه فعلا في عدة مناطق دون أن تفعل الإدارة الأمريكية شيئا، بل سلكت أسلوبا ملتويا عندما أدخلت موضوع جرائم النظام الكيماوية ضمن أعمال “لجنة خاصة” في الأمم المتحدة “للتقصي” حول هذه الجرائم دامت عدة سنوات إلى أن طواها النسيان ولم تفعل أمريكا ذات الجبروت أي إجراء فعلي ضد النظام. لكن هناك جانب آخر هام جدا في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، وهي أن تدمير سوريا وتمزيقها داخليا وصولا إلى تقسيمها إلى دويلات “علوية” في الساحل و”كردية” في الشمال و”سنّية” في الوسط، إنما يندرج في صلب استراتيجية “الفوضى الخلاّقة” الموجهة للعالم العربي بشكل خاص، وسوريا والعراق واليمن وليبيا نماذج. وقد سبق في مقالات سابقة أن كتبت عن تطبيقات هذه الاستراتيجية في عموم المنطقة العربية.
بالنسبة لإسرائيل فقد تكون أحرص الأطراف على بقاء النظام السوري، فهي من جهة لم تشعر بأي تهديد من جهته في اتجاه تحرير الجولان من الاحتلال الإسرائيلي على مدى ما يقرب من 60 عاما منذ احتلاله سنة 1967 !! كما أنه من الصعب جدا على إسرائيل أن تجد نظاما طائفيا ديكتاتوريا بديلا عن النظام الحالي يخدم مصالحها كما خدمها ويخدمها إلى الآن، كما أنها لا تنسى طبعا “الخدمات” التي قدمها النظام السوري للعدو الصهيوني، منذ عهد حافظ أسد الذي استولى على الحكم بانقلاب عسكري سنة 1968، عبر سياساته تجاه المقاومة الفلسطينية في سوريا وفي لبنان منذ ذلك الانقلاب، وأخيرها وليس آخرها طرد قيادة حماس والتنكيل بالفلسطينيين في حي اليرموك كما سلف القول.
تبقى هناك إشارة أخرى لمصلحة الكيان الصهيوني في استمرارية النظام الطائفي في سوريا وإعادة تأهيله عربيا، وهو مسارعة الإمارات قبل بضع سنوات لإعادة العلاقات مع النظام السوري، فهل هذا يعني أن الإمارات تؤيد “محور المقاومة” الذي يحسب عليه النظام السوري زورا؟ على أية حال ما لا يتناطح عليه كبشان هي الحقيقة القائلة بالتنسيق الاستراتيجي القوي بين الإمارات والكيان الصهيوني في كثير من الملفات..
هذه هي الخطوط العريضة لخلفيات إعادة النظام الدموي إلى الجامعة العربية، والشعارات الاحتفائية الكاذبة هي في حقيقة الأمر ثمن سياسي رخيص على حساب آلام الشعب السوري الهائلة، وإمعان في احتقاره.
*أعيد جثمانه إلى بلده سنة 2006.
** صاحب تجربة مهنية واسعة إذ عمل في لبنان وليبيا والعراق وتركيا ومصر وجاكارتا وقد أجرت معه قناة “العربي” في شهر مايو الحالي برنامجا من ثلاث مقابلات حول سوريا.